تقارير-و-تحقيقات

من قلب مكة.. المتحف الدولي للسيرة النبوية يجسّد حياة النبي بتقنية العصر

 

كتب: مصطفى على

في الزمان والمكان اللذين شكّلا المنبع الأول لأعظم رسالة عرفتها البشرية وداخل برج الساعة المهيب المطل على المسجد الحرام في مكة المكرمة تقف صرحٌ معرفيّ وروحيّ يعيد سرد حياة النبي محمد ﷺ بطريقة لم يسبق لها مثيل.
المتحف الدولي للسيرة النبوية والحضارة الإسلامية، ليس مجرد مبنى يروي تاريخًا، بل هو مشروع فكري وروحي وحضاري، يشكل جسراً تواصليًا بين الأجيال والحضارات، ويعيد تقديم الإسلام للعالم من نافذته الأولى: سيرة نبيّه الكريم ﷺ.

مشروع عالمي من قلب مكة المكرمة: منطلق جديد للتعريف بالنبي محمد ﷺ

إشراف دولي وحاضنة إيمانية
افتُتح المتحف الدولي للسيرة النبوية والحضارة الإسلامية عام 2023، كجزء من مبادرة عالمية أطلقتها رابطة العالم الإسلامي، بهدف تقديم السيرة النبوية برؤية إنسانية وعلمية، تُخاطب مختلف الشعوب والثقافات بلغة العصر.
وقد اختير موقع المتحف بعناية داخل مجمع برج الساعة، أحد المعالم الهندسية الأشهر عالميًا، والذي يطل مباشرة على الكعبة المشرفة في قلب مكة المكرمة هذا الاختيار لم يكن عشوائيًا بل مقصودًا ليجسد التلاحم بين الزمان والمكان وليربط الزائر، جسديًا وروحيًا بموقع الوحي الأول وبداية الرسالة.

رؤية حضارية تتجاوز الحدود الجغرافية

رسالة المتحف تتجاوز السياحة الدينية أو التوثيق التاريخي، إذ تهدف إلى بناء خطاب حضاري جديد للإسلام يستند إلى السيرة النبوية كمصدر أصيل للقيم الكونية كالرحمة والتسامح، والعدل، والمساواة وبذلك فإن المتحف لا يقتصر على خدمة المسلمين فحسب بل يقدم رسالة الإسلام لكل شعوب الأرض، وفق رؤية شاملة تُزيل الغبار عن الصور النمطية المشوّهة.

بنية معمارية ضخمة وتجهيزات تقنية غير مسبوقة

مساحة تتسع للتجربة والتأمل
تتجاوز المساحة الإجمالية للمتحف خمسة آلاف متر مربع، وهي مقسمة إلى عدد كبير من القاعات التي تعالج جوانب متعددة من السيرة النبوية كل قاعة مصمّمة بدقة لتقديم مشهد معين من حياة النبي ﷺ، بدءًا من مولده الشريف، مرورًا بحياته في مكة، ثم الهجرة، والغزوات، وصولاً إلى لحظة وفاته وانتقاله إلى الرفيق الأعلى.

تجربة متعددة الحواس
لا يكتفي المتحف بالسرد الكلاسيكي للأحداث، بل يستخدم تقنيات عرض متطورة من بينها:

الواقع الافتراضي (VR): يُتيح للزائر أن يعيش داخل أحداث السيرة كأنه يشارك في الهجرة أو يشهد خطبة الوداع.

الواقع المعزز (AR): يدمج الواقع بالمجسمات التوضيحية لشرح المعارك أو تفاصيل المدينة المنورة آنذاك.

العرض ثلاثي الأبعاد (3D): يُستخدم في محاكاة الشخصيات والمواقع التاريخية بإتقان بصري فائق.

الشاشات التفاعلية الذكية: تُتيح للزائر أن يختار ما يرغب في مشاهدته، وأن يتنقل بين المشاهد حسب اهتماماته.

هذه الوسائل حولت المتحف إلى “مدرسة حية” تُخاطب مختلف الحواس، وتمنح للزائر تجربة وجدانية معرفية متكاملة، تجمع بين التعليم، والتأمل، والانبهار.

توثيق علمي رفيع: دقة المحتوى بين يدي علماء السيرة

لجنة علمية متعددة التخصصات
يقف خلف المحتوى المعروض في المتحف لجنة علمية رفيعة تضم نخبة من كبار علماء السيرة النبوية واللغة العربية والتاريخ الإسلامي فضلاً عن مستشارين تربويين وتقنيين.
كل مادة، وكل مشهد، وكل كلمة في المعروضات، خضعت لمراجعة دقيقة لضمان التوثيق والحياد والموضوعية، بما يحفظ روح السيرة وعمقها، دون مبالغة أو تحريف.

بين العمق والوضوح
المتحف يقدم محتواه بأسلوبين متوازيين:

مستوى معرفي مبسّط يناسب الزوار من مختلف الأعمار والثقافات، خاصة الأطفال والناشئين.

مستوى معرفي متقدم يخاطب الباحثين، ويقدم معلومات موثقة بأرقام ومصادر أكاديمية دقيقة.

هذا التوازن جعل من المتحف وجهة علمية وروحية في آنٍ معًا، فهو لا يغفل عن جاذبية العرض، ولا يتنازل عن موثوقية المعلومة.

التعدد اللغوي: نافذة الإسلام المفتوحة على العالم

13 لغة تُخاطب الإنسانية جمعاء
في تأكيد على البعد العالمي للمتحف، يُقدّم محتواه بثلاث عشرة لغة، أبرزها: العربية، الإنجليزية، الفرنسية، التركية، الأردية، الإندونيسية، السواحلية، الصينية، الإسبانية، والألمانية.
هذا التنوع اللغوي يهدف إلى كسر الحواجز الثقافية واللغوية، وتقديم الإسلام كما هو، من خلال سيرة نبيّه، بلغة يفهمها الجميع.

إزالة الحواجز الثقافية
من خلال هذه الترجمات، يستطيع غير المسلمين الاطلاع على السيرة النبوية بتجرد وموضوعية، بعيدًا عن الروايات المغلوطة وهذا ما يعزز من دور المتحف في الحوار الحضاري بين الشعوب، ويجعله أحد أهم أدوات القوة الناعمة في العالم الإسلامي.

“بشير”: الذكاء الاصطناعي في خدمة الهدي النبوي

شخصية افتراضية ناطقة متعددة اللغات
ضمن مفاجآت المتحف، تأتي شخصية “بشير”، وهي مرشد افتراضي مدعوم بالذكاء الاصطناعي، يتحدث عدة لغات، ويجيب عن أسئلة الزوار، ويوجههم خلال رحلتهم داخل المتحف.
“بشير” صُمّم ليُجسّد دور المعلم الرقمي، ويقدم المعلومات بسلاسة ودقة في آنٍ واحد، مع مراعاة الخلفية الثقافية للزائر.

تعلّم آلي يتطور مع التجربة
تُستخدم في شخصية “بشير” تقنيات التعلم الآلي، بحيث يتعرف على أسئلة الزوار المتكررة، ويُحسّن من جودة إجاباته بمرور الوقت، ما يضمن تجربة معرفية مخصصة لكل فرد، ويمنح الزائر شعورًا بالتواصل الشخصي مع المعروضات.

ثورة تكنولوجية بروح رسالية
يعكس إدماج الذكاء الاصطناعي في المتحف توجهًا عميقًا نحو تقديم الدين بلغة العصر، دون المساس بجوهر الرسالة. فالتقنية هنا لا تُستخدم للتسلية، بل كوسيلة لشرح القيم، وتوضيح الرسالة، وجعل التجربة حيّة ومتجددة.

رسائل إنسانية تخرج من قلب السيرة

قيم عالمية… من حياة إنسانية
يركّز المتحف على عرض السيرة النبوية من منظور إنساني، إذ يُبرز جوانب النبي محمد ﷺ كزوج، وأب، وصديق، وقائد، ومعلّم. ويُقدّم مشاهد من رحمته بالحيوان، وعدله مع المخالف، وتسامحه مع مَن أساء إليه، واحترامه للمرأة والطفل، وتعاطفه مع الفقراء.
هذه الرسائل تم تقديمها في قاعات منفصلة، تحمل عناوين مثل: “النبي في بيته” – “قائد الإنسانية” – “حوار مع الآخر” – “رحمة للعالمين”، وهي مصممة بعناية لتحاكي القيم العالمية التي يُجمع عليها الضمير الإنساني.

تصحيح للمفاهيم المغلوطة
في ظل الحملات الدعائية المغرضة ضد الإسلام، يأتي المتحف ليُعيد تصحيح المفاهيم ويقدم الإسلام كما هو: دين عدل ورحمة، عبر شخصية نبيّه الذي دعا إلى الخير ورفع شأن الإنسان.

تجربة جماهيرية مذهلة وإقبال عالمي متصاعد

عشرات الآلاف من الزوار شهريًا
منذ افتتاحه، استقبل المتحف مئات الآلاف من الزوار من شتى بقاع الأرض، خصوصًا خلال مواسم الحج والعمرة كثير من الزوار يصفون الزيارة بأنها “نقطة تحول روحية” و”رحلة قلبية قبل أن تكون معرفية”، إذ يشعر الزائر بأن سيرة النبي ﷺ تتحرك أمامه وتخاطبه مباشرة.

تقييمات إيجابية وانطباعات ملهمة
الزوار من غير المسلمين أبدوا انبهارهم بما شاهدوه، خصوصًا من جهة التوازن بين الدقة العلمية، وجمال العرض، وروعة التنظيم، فضلًا عن الشعور بالأمان والانتماء الروحي.

متحف بمثابة بعثة ثانية للرسالة النبوية

في زمنٍ تتصارع فيه الروايات وتتعدد مصادر المعلومة وتُختلط فيها الحقائق بالصور المشوّهة، يقدّم المتحف الدولي للسيرة النبوية بمكة المكرمة تجربة نادرة من نوعها تدمج بين المعرفة، والتقنية والإيمان.
هو ليس مجرد متحف تقليدي، بل مركز عالمي للتنوير، ومدرسة معرفية متعددة الأبعاد، ومنارة تربوية تقدم سيرة خاتم الأنبياء بلغة تصلح لكل زمان ومكان.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights