أخبار

عرفات.. يوم المغفرة والعتق حين يُباهي الله بعباده الملائكة

 

 

 

تقرير: مصطفى على

في زمن تموج فيه الحياة بصخبها وضغوطها، تأتي فريضة الحج كنداء علوي يُعيد الإنسان إلى أصله النقي، ويأخذه في رحلة تتجاوز المكان والزمان، لتعيد تشكيل روحه وفق الفطرة الأولى التي فُطر عليها الإنسان: التوحيد، الخضوع، الطاعة، والتجرد من كل زيف الحج ليس فقط انتقالًا من بلد إلى بلد، بل من حال إلى حال؛ من التعلق بالدنيا إلى التعلق بالمولى، من الغفلة إلى الذكر، ومن التراخي إلى الاجتهاد.

من أول لحظة يُلبي فيها الحاج نداء إبراهيم: “لبيك اللهم لبيك”، تبدأ هذه الرحلة الروحية التي تتجاوز أبعاد الجغرافيا لتصل إلى عمق القلب يترك الحاج ماله، أهله، مسكنه، عمله، وراحته، ليسير على خُطى الأنبياء، في استسلام مطلق لله عز وجل، يعيد تعريف الولاء والانتماء، ويعيد تشكيل علاقته بالخالق والخلق.


يوم عرفة، التاسع من ذي الحجة، يوم تتعانق فيه الأرض بالسماء، ويشهد فيه الوجود كله وقفة لا تتكرر إلا مرة في العمر لبعض الناس، لكنها تترك أثرًا أبديًا في القلب لمن شهدها يقف الحجيج على جبل عرفات من بعد الزوال حتى غروب الشمس، في مشهد بالغ الجلال، يكشف عن جوهر العبودية الحقة، حيث لا طبقية، ولا ألقاب، ولا مظاهر دنيوية؛ الجميع في لباس الإحرام، بياض يرمز للصفاء والمساواة، وشعث وغبار يدل على التجرد والتفاني.

الوقوف بعرفة ليس مجرد طقس، بل هو ركن الحج الأعظم الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:

“الحج عرفة” (رواه الترمذي).

 

إنه اليوم الذي يشهد أعظم تجلٍّ لرحمة الله على عباده. يوم يُظهر فيه الله عز وجل محبته لعباده، بل ويباهي بهم ملائكته، في مشهد لا نظير له في النصوص الدينية. يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه:

“ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة، ينـزل الله تعالى إلى سماء الدنيا، فيباهي بأهل الأرض أهل السماء، فيقول: انظروا إلى عبادي، جاؤوني شعثاً غبراً ضاجِّين، جاؤوا من كل فج عميق، يرجون رحمتي، ولم يروا عقابي، فلم يُرَ يوماً أكثر عتقاً من النار، من يوم عرفة”.

كلمة “يُباهي” تحمل دلالة عميقة؛ الله، بكل جلاله، يُفاخر ملائكته بهؤلاء البشر، الذين جاءوا من كل فجّ، ملطخين بالغبار، حاسري الرؤوس، دامي الأقدام، يحملون في صدورهم آمال المغفرة، وقلوبهم تهتف بالتوبة.

من عرفات إلى الغفران: ميلاد جديد للروح

المشهد في عرفات هو مشهد القيامة المصغرة. كل حاج يقف بين يدي ربه، يرجو رحمته، يخشى عقابه، يُكثر من الدعاء، يطلب العتق من النار، ويبكي على ذنوبه هناك، لا وسائط، لا حاجز، لا تكلف؛ فقط العبد وربه. وفي هذه اللحظات يفيض الله على عباده من نوره، ويجود عليهم بكرمه، ويعطيهم فوق ما يتمنون

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights