يوم القر: سر اليوم الأعظم بعد النحر في الإسلام

تقرير: مصطفى على
مع إشراقة صباح الحادي عشر من شهر ذي الحجة، وبعد يوم النحر، يتجلى يوم من أعظم الأيام في الإسلام: “يوم القر”، وهو أول أيام التشريق، وثاني أيام عيد الأضحى المبارك.
هذا اليوم الذي يجهله الكثيرون، رغم ما ورد في فضله من نصوص نبوية وتوجيهات شرعية تضعه في مصاف أعظم الأيام عند الله، بعد يوم النحر مباشرة.
وقد جاء في الحديث النبوي الشريف عن عبد الله بن قرط، أن النبي ﷺ قال:
«إِنَّ أَعْظَمَ اْلأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ»
[رواه أبو داود].
لماذا سُمي بهذا الاسم؟ استقرار القلوب والأجساد
سُمي “يوم القر” بهذا الاسم من الاستقرار والمقام، فـ”القرّ” بفتح القاف وتشديد الراء يعني السكون والقرار ويقصد به استقرار الحجيج في منى بعد يوم النحر، حيث يبيتون ويرتاحون، بعد طواف الإفاضة والنحر والسعي، ثم يستعدون لأداء رمي الجمرات في أيام التشريق فالناس يقرّون بهذا اليوم في مواضعهم، ولا ينتقلون كما فعلوا في يوم التروية أو يوم عرفة.
من أعظم الأيام عند الله.. لماذا؟
الرسول ﷺ بيّن أن يوم القر يلي يوم النحر في العظمة والمنزلة عند الله تعالى، لما فيه من الطاعة والاستقرار والعبادة الجماعية ويعتبر هذا التفضيل النبوي دليلاً على أهمية هذا اليوم في ميزان الأعمال والبركات ومن أبرز الأعمال التي يشرع القيام بها في هذا اليوم للحاج وغير الحاج ما يلي:
أولاً: أعمال الحجيج في يوم القر
رمي الجمرات: شعيرة متجددة بطقوس نبوية
في هذا اليوم، يبدأ الحجاج في أداء رمي الجمرات الثلاث (الصغرى، الوسطى، ثم العقبة)، كل واحدة منها بسبع حصيات، مع التكبير عند كل رمية، والوقوف للدعاء بعد الجمرة الصغرى والوسطى، اتباعًا لسنة النبي ﷺ.
وقد أفتى الدكتور شوقي علام، مفتي الجمهورية، بجواز رمي الجمرات في أي وقت من النهار والليل لتخفيف الزحام، والتيسير على ضيوف الرحمن، مشددًا على أن ذلك جائز شرعًا ولا يخرج عن حدود السنة، بخلاف من يتشددون بتقييد الرمي بعد الزوال فقط.
التيسير على الحجاج: الرخصة للمرضى والضعفاء
من التيسيرات الممنوحة في هذا اليوم، ما أفتى به مفتي الجمهورية من إباحة عدم المبيت بمنى للضعفاء والمرضى، وأيضًا جواز التوكيل عنهم في رمي الجمرات، وهو ما يعكس روح التيسير في الشريعة الإسلامية على الحجاج.
ثانيًا: الدعاء في يوم القر.. مفاتيح الاستجابة
باب مفتوح للرجاء
ورد عن الصحابي الجليل أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، أنه كان يخطب الناس يوم النحر ويقول:
«بعد يوم النحر ثلاثة أيام، التي ذكر الله الأيام المعدودات، لا يُردّ فيهن الدعاء، فارفعوا رغبتكم إلى الله عز وجل».
فالدعاء في يوم القر من الأدعية المرجوة الاستجابة، وفيه تُرفع الأكف إلى السماء سائلة من الله الرحمة والمغفرة والرزق وتحقيق الأمنيات، خاصة مع صفاء القلوب وخشوع الأرواح في هذه الأيام المباركة.
ثالثًا: لغير الحجاج.. أعمال عظيمة لا تفوت في يوم القر
1. الصلاة والمحافظة عليها
الصلاة هي عماد الدين وأفضل الأعمال في يوم القر، وقد وردت في فضائلها العديد من الأحاديث التي تدعو للمحافظة عليها، والإكثار من النوافل، وخشوع القلب أثناء أدائها يقول النبي ﷺ:
«عليك بكثرة السجود؛ فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة».
[رواه مسلم]
2. حفظ الجوارح: عبادة الصمت والصفاء
من أفضل الأعمال في يوم القر حفظ الجوارح عن الحرام: السمع، والبصر، واللسان وقد قال النبي ﷺ للفضل بن عباس يوم عرفة:
«يا ابن أخي، هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره ولسانه غفر له».
وهذا التوجيه يشمل أيام التشريق عمومًا، ويعني أن السيطرة على الجوارح وتهذيب النفس هو باب عظيم من أبواب الطاعة.
3. الإكثار من الذكر وشهادة التوحيد
كان من دعاء النبي ﷺ في يوم عرفة:
«لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير».
والذكر من أعظم القربات، وفيه طرد للشيطان، وجلب للرزق، ونور للقلب، وطمأنينة للنفس. وقد حثت الأحاديث النبوية على الإكثار من “الباقيات الصالحات”:
«سبحان الله، الحمد لله، لا إله إلا الله، الله أكبر».
رابعًا: الصيام في أيام التشريق.. حكم شرعي واضح
ثبت عن النبي ﷺ النهي عن صيام أيام التشريق، إلا في حالة واحدة: لمن لم يجد الهدي من المتمتع أو القارن وقد ورد عن النبي ﷺ أنه رأى رجلًا ينادي في منى قائلًا:
«لا تَصُومُوا هَذِهِ الأَيَّامَ فَإِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ».
[رواه أحمد]
لذا، اتفق جمهور العلماء على أن أيام التشريق الثلاثة لا يصح صيامها تطوعًا، بينما اختلفوا حول جواز قضائها عن رمضان.
خامسًا: أيام التشريق في القرآن الكريم
جاء ذكر أيام التشريق في قوله تعالى:
“وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ” [البقرة: 203].
وقد فسر العلماء “الأيام المعدودات” بأنها أيام التشريق الثلاثة، أي الحادي عشر، الثاني عشر، والثالث عشر من ذي الحجة وهي أيام يُشرع فيها ذكر الله بعد الصلوات، وفي كل حين، وتُعد من الأيام التي يُكثر فيها التكبير والتهليل والحمد.
سادسًا: صلة الرحم.. عمل يتضاعف أجره
صلة الرحم في يوم القر من أفضل القربات، لما لها من أثر في رضى الله، وبسط الرزق، وطول العمر. وقد ورد عن النبي ﷺ قوله:
«إن الله خلق الخلق، حتى إذا فرغ من خلقه قالت الرحم: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال: أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ فقالت: بلى يا رب، قال: فهو لك».
ويُعد هذا اليوم المبارك فرصة للصلح، والعفو، والمصافحة، وإعادة الروابط الإنسانية التي تقطعت.
سابعًا: يوم القر.. فرصة العمر للدعاء والرجوع إلى الله
قال النبي ﷺ:
«من فُتح له منكم باب الدعاء، فُتحت له أبواب الرحمة».
[رواه الترمذي]
ويقول ﷺ:
«إني عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا دعاني».
[رواه مسلم]
وفي هذا اليوم، تتفتح أبواب السماء، ويكون القلب أقرب ما يكون من مولاه، لذلك ينبغي لكل مسلم ومسلمة أن يغتنم هذا اليوم بالدعاء الصادق، والتوبة النصوح، والتقرب إلى الله جل وعلا.
لا تجعلوا يوم القر يمر دون زاد
إن يوم القر ليس مجرد يوم للراحة بعد عناء النحر، بل هو يوم من أيام الله، خصه النبي ﷺ بالثناء والمدح، وجعل فيه من العبادات ما يغسل القلوب من درن الغفلة.