تقارير-و-تحقيقات

زمزم.. الماء المبارك بين التبرك والدعاء

 

تقرير: مصطفى على

في قلب الحرم المكي الشريف، وتحديدًا على بُعد خطوات من الكعبة المشرفة، ينبض بئر زمزم بعطاء لا ينقطع، منذ أن فجّره الله تعالى تحت قدمي نبيّه إسماعيل عليه السلام، استجابة لدعاء أمّه هاجر وعلى مدار القرون، ظل ماء زمزم محورًا لعقيدة المسلمين ومصدرًا للبركة والشفاء، بل وتجسيدًا حيًا للصلة بين الأرض والسماء، بين الدعاء والاستجابة.

وفي هذا التقرير، نرصد أبعاد فضل ماء زمزم كما جاءت في الأحاديث النبوية والتجارب الروحية للعلماء، ونتناول السؤال المتكرر: هل يجوز شرب ماء زمزم بنية التبرك فقط؟ وما السنن المرتبطة به؟ وهل هو مجرد ماء طيب الطعم، أم أنه طعام وروح وعقيدة؟

شرب ماء زمزم بنية التبرك والدعاء… سنة نبوية مؤكدة

بحسب ما ورد عن مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية، فإن شرب ماء زمزم بنية التبرك والدعاء يُعد من السنن المستحبة والمأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويُستدل على ذلك بعدد من الأحاديث الصحيحة، أبرزها ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله:

«إِنَّهَا مُبَارَكَةٌ، إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ».

ويُفسر العلماء “طعام طُعم” بأنه ماء ليس فقط لإرواء العطش، بل يسد الجوع ويمنح الشبع، وهو ما يعكس طبيعة زمزم الفريدة التي تجمع بين الإشباع الجسدي والروحي.

كما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب من ماء زمزم وهو قائم، كما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما:

«سَقَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ مِنْ زَمْزَمَ، فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِمٌ» (رواه البخاري).

وهذا الفعل النبوي يُعدّ من السنن المروية، ما يؤكد على فضيلة شرب ماء زمزم والاقتداء بهدي النبي في ذلك، سواء بنية التبرك أو الاستشفاء أو الدعاء أو جميعها معًا.

زمزم… بئر العقيدة الأولى في الإسلام

أشار مركز الأزهر إلى أن بئر زمزم هي أعظم بئر على وجه الأرض، وأنها ليست بئرًا تقليدية كسائر الآبار، بل هي معجزة خالدة بدأت عندما كانت السيدة هاجر تبحث عن الماء لرضيعها إسماعيل عليه السلام، بين الصفا والمروة، فاستجاب الله دعاءها وتفجّر الماء من تحت قدمي الصغير.

ويقول المركز إن سبب التسمية “زمزم” يعود إلى قول السيدة هاجر: “زِمْ زِمْ”، وهي صيغة أمر بمعنى: تجمع وانبثق وازدد.

وارتبطت زمزم بأولى الثمرات التي أنعم الله بها على إبراهيم عليه السلام بعد استقراره في وادٍ غير ذي زرع، كما ورد في قوله تعالى:

{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم: 37].

التجربة الروحية للعلماء مع ماء زمزم

ومن المظاهر اللافتة لفضل ماء زمزم ما ورد عن الإمام ابن القيم رحمه الله، الذي اعتاد شرب ماء زمزم بعد قراءة الفاتحة عليه عدة مرات، وكان يشعر بقوة ونشاط عجيبين وعلى الرغم من أن هذا الفعل لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن العلماء أجمعوا على أنه لا يُعدّ بدعة، لأن ترك النبي لفعل ما لا يدل بالضرورة على تحريمه أو منعه.

وتتكرر هذه النماذج مع علماء آخرين، مثل أحد الشيوخ الذين اعتادوا بعد صلاة السنة أن يرددوا ذكرًا معينًا: “يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث” أربعين مرة، ووجدوا في قلوبهم أثرًا وروحًا وحياة لم يعهدوها من قبل.

هذه التجارب الشخصية ليست بديلاً عن النصوص، لكنها تنسجم مع روح الشريعة ما دامت لا تخالفها، وهو ما يفتح المجال لروحانية واسعة مبنية على نية صادقة واستفادة من فضل ماء زمزم في الدعاء والذكر.

ماء زمزم… ليس فقط للشرب بل للنية

من أعظم ما يُقال في فضل ماء زمزم هو ما رواه العلماء:

“ماء زمزم لما شُرب له”

أي أن النية عند شربه تلعب دورًا كبيرًا في جني بركاته، سواء كانت للشفاء أو العلم أو الرزق أو التيسير ولهذا نجد أن العلماء والصالحين يوصون بشربه بنية محددة، بل ويكثرون من الدعاء عند تناوله، ويفتتحونه ببسم الله ويختمونه بالحمد لله.

عمق زمزم… وعمق المعاني

يشير مركز الأزهر إلى أن عمق بئر زمزم يبلغ 30 مترًا، ورغم ذلك فإن ماءه لا ينضب، ولا يتأثر بمواسم الجفاف، بل يفيض كل عام ليكفي ملايين الحجاج والمعتمرين، في ظاهرة مائية تتحدى المنطق البشري.

وهذا يؤكد ما ذهب إليه العلماء بأن ماء زمزم هو ماء مخصوص بكرامة ربانية، لا يخضع لقوانين الطبيعة وحدها، وإنما يتدفق بقوة البركة والإرادة الإلهية.

زمزم في حياة المسلمين اليوم

رغم الحداثة والتقنيات المعاصرة، لم يفقد ماء زمزم مكانته الروحية. فالمسلمون في أنحاء العالم يحرصون على جلبه من الحرم، ويقدمونه كهدايا لأحبتهم، ويشربونه في المناسبات الخاصة، ويستخدمونه في الرقية الشرعية.

وفي قلب كل مسلم، تبقى زمزم رمزًا دائمًا للرجاء، وعلامة واضحة على استجابة الله للدعاء، ودليلًا على أن البركات لا ترتبط بالمادة بقدر ما ترتبط بالنية الصادقة والتوجه القلبي الصافي.

زمزم… عبادة تنبع من الماء

إن ماء زمزم ليس مجرد سائل يُشرب، بل هو تجسيد لحكاية إيمانية عميقة، تبدأ بدعاء أم وتسير في درب الأنبياء، وتُختتم في حياة المسلم بيقين أن الله لا يخذل من طرق بابه.

سواء شربته بنية التبرك، أو الشفاء، أو تحقيق أمنية، فإن زمزم مفتاح من مفاتيح الرحمة الإلهية، ومن يتأمل في قصته وفضله لا يشك لحظة في أنه ماء مبارك، اختصه الله لأحب خلقه، وتركه لنا ميراثًا نغرف منه إيمانًا وبركة كلما عطشنا إلى القرب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights