المذاهب الفقهية.. تعدد في الفهم ووحدة بالمنهج

تقرير: مصطفى على
لطالما أثار مصطلح “المذاهب الفقهية” تساؤلات وجدلاً بين عامة المسلمين، بل وحتى في بعض الأوساط الثقافية والدعوية، حيث يُنظر إليه أحيانًا على أنه عنوان للفرقة، أو مدخل للتعصب والانقسام داخل الأمة الإسلامية. وبينما يتساءل البعض: “أين السنة النبوية من هذه المذاهب؟”، يتردد سؤال آخر لا يقل أهمية: “هل على المسلم أن يلتزم بمذهب معين؟”.
في هذا التقرير ، نستعرض الخلفية العلمية والشرعية والتاريخية لنشأة المذاهب الفقهية، ونوضح طبيعة علاقتها بالسنة النبوية، كما نبيّن الحكم الفقهي في اتباع مذهب معين، استنادًا إلى تصريح مفصل للدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف.
جذور المذاهب: اجتهاد لا ابتداع
يرى الدكتور علي جمعة أن المذاهب الفقهية ليست خروجًا عن النص، ولا انفصالًا عن السنة، بل هي امتداد طبيعي لمسيرة الفهم والاجتهاد في الإسلام فقد نشأت نتيجة لاجتهاد علماء كبار قرؤوا القرآن الكريم وتدبروه، ودرسوا السنة النبوية واستوعبوا معانيها، وأتقنوا علوم اللغة العربية، وأدركوا مقاصد الشريعة، واطلعوا على آثار الصحابة والتابعين وتابعيهم.
وقد بلغ هؤلاء العلماء منزلة علمية رفيعة تخولهم الاجتهاد، وهو كما يعرّفه الإمام الغزالي “القدرة على التخيل المبدع”، حيث يمتلك المجتهد القدرة على تصور الحالات الفقهية الجديدة، وموازناتها الشرعية، بما يحقق المصلحة العامة ويراعي واقع الناس.
المذاهب الفقهية والسنة النبوية: علاقة تكامل لا تضاد
يؤكد جمعة أن المذاهب الفقهية تقوم بالأساس على الكتاب والسنة، بل تستمد منهما قوتها وشرعيتها وكل ما أنتجه المجتهدون من آراء فقهية هو ثمرة استنباط مباشر من النصوص الأصلية.
الاختلاف الذي نشأ بين المذاهب، إنما هو اختلاف تنوع في الفهم والتأويل، وليس اختلاف تضاد في العقيدة أو الأصول فالسنة النبوية هي الركيزة الأساسية لجميع المدارس الفقهية، لكن تفسير النص قد يختلف بحسب الزمان، والمكان، وواقع المجتمع، وقرائن الأحوال، ومستوى اللغة، ومقاصد الشريعة.
مليون ومئتا ألف مسألة.. و75% اتفاق
في إشارة إلى حجم الفقه الإسلامي، ذكر الدكتور جمعة أن علماء المسلمين عبر العصور، قد أجابوا عن ما يزيد على مليون ومئتي ألف مسألة فقهية وهذه الإحصائية ليست رقمًا بلاغيًا، بل تعكس عمق التجربة الفقهية وتنوعها.
ورغم كثرة هذه المسائل، إلا أن نسبة الاتفاق بين العلماء بلغت 75%، ولم يختلفوا إلا في 25% منها فقط، مما يدل على وجود قواعد أصولية واحدة تجمعهم، ويعكس أن الخلاف كان محصورًا في مسائل الاجتهاد، لا في الثوابت الدينية.
قصة اختلاف في زمن النبي: بداية المدارس الفقهية
يقدم الدكتور جمعة دليلًا تاريخيًا قويًا على أن جذور الاختلاف الفقهي ترجع إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه.
يروي أنه خلال غزوة بني قريظة، قال النبي لأصحابه: “لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة”.
فهم بعض الصحابة الأمر على ظاهره، فأخروا صلاة العصر حتى وصلوا بني قريظة.
بينما فهم البعض الآخر أن المقصود هو الإسراع، فصلوا العصر في الطريق خوفًا من خروج الوقت.
وحين عُرض الموقف على النبي ﷺ، أقر الفريقين ولم يعنّف أحدًا، ما يعني أن الاجتهاد المشروع كان قائمًا في زمن الوحي، وأن تعدد الفهم من النص الواحد كان محل قبول في الشريعة الإسلامية.
هل المسلم ملزم باتباع مذهب معين؟
هنا تكمن الإشكالية الكبرى التي يطرحها كثير من المسلمين في العصر الحالي: هل يجب أن أكون حنفيًا أو مالكيًا أو شافعيًا أو حنبليًا؟ هل إذا لم أتبع مذهبًا معينًا أكون مخطئًا؟ وهل الالتزام بمذهب يُعد من الدين؟
يرى الدكتور جمعة أن اتباع مذهب معين ليس واجبًا شرعيًا، خاصة في العصر الحالي الذي يشهد انفتاحًا معرفيًا ووسائل سهلة للوصول إلى الفتوى والعلم.
لكن في الوقت ذاته، يشير إلى أن اتباع أحد المذاهب الأربعة هو الأسلم للمسلم غير المتخصص، لأنه يوفر له مرجعية واضحة ومنهجًا فقهيًا متكاملًا، خاصة في مسائل العبادات والمعاملات.
ما سبب اختلاف المذاهب إذن؟
يؤكد جمعة أن الاختلاف بين المذاهب لا يعود إلى تضارب في المصادر، بل إلى تعدد طرق فهم النصوص الشرعية، واختلاف المقاصد المرجوة من كل اجتهاد.
فعلى سبيل المثال، اختلف الفقهاء في مسألة “هل لمس المرأة ينقض الوضوء؟”، والسبب في ذلك يعود إلى تفسيرهم المختلف للفظ في قوله تعالى: “أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ” [النساء:43]، فبعضهم اعتبر اللمس بمعناه الحسي، وبعضهم اعتبره كناية عن الجماع، وبالتالي اختلف الحكم الفقهي.
المذاهب ليست فرقًا ولا طوائف
من المهم التوضيح، كما يفعل الدكتور جمعة، أن المذاهب الفقهية ليست فرقًا دينية، كما هو الحال في الطوائف أو الأديان المتعددة، بل هي مدارس اجتهادية تتعامل مع نفس القرآن والسنة، ولكن بأساليب تفسير واستنباط مختلفة.
ولهذا لم يقل أحد من الأئمة الأربعة أن رأيه هو الإسلام، أو أن غيره على باطل، بل كانوا يرددون دائمًا قولتهم الشهيرة:
“رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب”.
هل يمكن الجمع بين المذاهب؟
القاعدة العامة في الفقه أن المسلم يجوز له اتباع مذهب معين أو تقليد أحد العلماء في الفتوى، شرط ألا يكون ذلك انتقائيًا بدافع الهوى أو التيسير غير المنضبط.
وإذا كان هناك حاجة أو مشقة أو ضرورة، فقد أجاز العلماء الأخذ من مذاهب مختلفة وفق ضوابط شرعية، وهو ما يعرف بقاعدة “التيسير في الفتوى عند الحاجة”.
الفقه الإسلامي.. بحر عميق من الرحمة والحكمة
التحقيق في مسألة المذاهب الفقهية يكشف عن حقيقة ناصعة: الإسلام دين عظيم، أنزل تشريعاته على قدر عقول البشر وواقعهم، وترك باب الاجتهاد مفتوحًا، وجعل التعدد الفقهي أحد مظاهر رحمة الشريعة ومرونتها.
إن المذاهب الفقهية ليست خروجًا عن السنة، بل هي امتداد لها، وهي عدسات شرعية لفهم النص وتطبيقه، وليست بدعة كما يروج بعض من يجهلون علم الأصول والتاريخ.
ويظل الأصل في كل ذلك هو: “فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ” [التغابن:16] فكل ما يقرّب المسلم من الفهم الصحيح والامتثال الواعي، فهو من الدين، سواء كان عبر مذهب فقهي معين أو عبر فتوى موثوقة.