الأشهر الحُرم.. مواسم للتوبة ومضاعفة الأجر

تقرير: مصطفى على
في خضم انشغال الإنسان بأعباء الحياة وضغوطها، تأتي مواسم الطاعة والروحانية لتُذكِّره بهدفه الأسمى في الوجود، ألا وهو العبادة والتقرب إلى الله ومن أعظم هذه المواسم التي شرَّفها الإسلام وجعل لها خصوصية تشريعية وروحية، “الأشهر الحُرم”، التي تتكرر كل عام، لكنها للأسف تمرّ علينا وكأنها مجرد تواريخ على رزنامة النسيان.
ورغم أن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة زخرت بذكر فضلها، فإن كثيرًا من المسلمين اليوم يتغافلون عن مكانتها، ولا يعظمون شعائر الله فيها كما أمر. فكيف نُعيد لهذه الأشهر الحُرمة مكانتها في الوعي الفردي والجماعي؟ وكيف نستثمرها كفرص ذهبية للعودة إلى الله؟
أولًا: ما هي الأشهر الحُرم؟ ولماذا سُمّيت بهذا الاسم؟
الأشهر الحُرم هي أربعة أشهر من بين شهور السنة الهجرية، قال الله تعالى عنها:
{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ… مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36].
وهذه الأشهر هي:
ذو القعدة
ذو الحجة
المحرّم
رجب
وسميت بـ”الحُرم” لأن الله حرّم فيها القتال، وأمر بتعظيمها، ونهى عن الظلم فيها فهي أشهرٌ معظَّمة منذ القدم، حتى قبل الإسلام، وكان العرب في جاهليتهم يمتنعون عن الاقتتال فيها تعظيمًا لشأنها، فجاء الإسلام ليؤكد هذه القداسة ويضفي عليها بُعدًا تشريعيًا وروحيًا.
ويقول الإمام ابن كثير في تفسيره:
“إنما سُمِّين حُرُمًا لِتحريم القتال فيهنّ، ولأنهنّ أشهرٌ يعظّم الله فيها الحرمات ويضاعف فيها الأجر والعقوبة”.
ثانيًا: فلسفة التشريع.. لماذا اختص الله هذه الأشهر بالتعظيم؟
التشريع في الإسلام يقوم على حِكَم عظيمة ومقاصد عالية، ومن بين تلك المقاصد في الأشهر الحُرم:
1. نشر ثقافة السِّلم والسلام في المجتمع.
2. تهيئة القلوب للتوبة والطاعة، من خلال مواسم تعبدية.
3. مضاعفة الثواب لمن أراد الاجتهاد في الطاعة.
4. ردع الناس عن ارتكاب المعاصي، عبر التحذير من تعظيم العقاب.
فالأشهر الحُرم ليست فقط وقفًا على الامتناع عن القتال أو الجدل، بل هي تذكير بأن للزمن حرمة، وأن لله مواقيت يجب أن نخشع لها، ونستعد خلالها للارتقاء الروحي والتطهر الأخلاقي.
ثالثًا: المعصية فيها أعظم.. والطاعة أكرم
قال تعالى:
{فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36].
وهذا يعني أن المعصية في هذه الأشهر ليست كغيرها في بقية السنة فالمذنب في هذه الشهور يُضاعف عليه الإثم، لأنه انتهك حرمة زمان عظّمه الله.
ويقول الإمام القرطبي:
“إذا عظَّم الله شيئًا من جهة واحدة، صارت له حرمة واحدة، وإذا عظَّمه من جهتين، صارت له حُرمتان أو أكثر، وتضاعف فيه الحساب”.
فمن جهة، الزمن معظَّم، ومن جهة أخرى، العمل السيء انتُهِك فيه أمر إلهي صريح، لذا يتضاعف الإثم.
وفي المقابل، تُضاعف الحسنات والأجور، ويصبح العمل الصالح فيها أحب إلى الله فقيام الليل، الصيام، التصدق، الإحسان، وقراءة القرآن، كل ذلك يُثقل ميزان العبد مضاعفًا في هذه المواسم.
رابعًا: رجب.. بداية الطريق إلى رمضان
شهر رجب هو أول الأشهر الحرم الفردية، وله منزلة خاصة، لا سيّما أنه يُمهّد الطريق نحو رمضان.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله:
“اللهم بارك لنا في رجب وشعبان، وبلغنا رمضان”.
كما ورد في حديث أسامة بن زيد أنه سأل رسول الله عن سبب صيامه الكثير في شعبان، فأجابه:
“ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان”.
وهذا يدل على أن رجب وشعبان هما شهرا الإعداد والتهيئة، ويجب على المسلم أن يستغلهما للارتقاء في سلّم الطاعة تدريجيًا نحو رمضان.
فالصيام في رجب ليس بدعة، بل هو مستحب لأنه من الأشهر الحُرم التي تُضاعف فيها الحسنات، وفيه استعداد روحي وبدني لصيام شعبان، ثم رمضان.
خامسًا: ماذا يجب أن نفعل في الأشهر الحُرم؟
إن تعظيم الأشهر الحرم لا يكون بالشعارات، بل بالسلوك العملي والروحي. وهنا مجموعة من النصائح العملية:
1. الإقلاع عن الذنوب والمعاصي
ترك الغيبة والنميمة والكذب.
تجنّب الظلم بأنواعه (الأسري، الاجتماعي، المالي).
الحذر من الإصرار على المعاصي بحجة التسويف والتوبة لاحقًا.
2. الإكثار من الأعمال الصالحة
الصيام (خاصة الإثنين والخميس، وثلاثة أيام من كل شهر).
قيام الليل وصلاة الوتر.
قراءة القرآن بتدبر.
الإكثار من الاستغفار والتوبة النصوح.
3. صلة الأرحام والإصلاح بين الناس
اغتنام الأوقات المباركة لردّ الحقوق، وزيارة الأقارب.
إنهاء الخصومات التي قد تُغلق أبواب الرحمة على العبد.
فتح صفحة جديدة مع الآخرين ومع الله.
سادسًا: إحياء روح التعظيم في المجتمع الإسلامي
لقد غاب روح التعظيم لهذه الأشهر من واقع المسلمين فتمرّ على الكثير دون خطبة مسجدية تُذكر بها، أو درس وعظي يُذكّر بفضلها، بل أحيانًا تُرتكب فيها الكبائر دون أدنى شعور بالذنب.
والواجب على العلماء والدعاة والإعلام الديني، أن يُعيدوا لهذه المواسم وهجها الإيماني المفقود، ويشرحوا للناس عظمة الزمان والمكان في التشريع الإسلامي، ويزرعوا في القلوب روح التوقير والتقديس لكل ما عظّمه الله.
الأشهر الحرم نداء رباني متجدد
في كل عام، يُرسل الله للمؤمنين نداءً روحانيًا ربانيًا عبر هذه الأشهر، وكأنه يقول:
“يا عبادي، عُودوا إليّ، هذا زمانٌ عظيم، فلا تظلموا فيه أنفسكم، واغتنموه، فقد لا تدركونه العام المقبل”.
فهل نُصغي لهذا النداء؟
هل نتوقف لحظة لنعيد ترتيب أولوياتنا؟
هل نُقبل على هذه الأشهر كما أقبل الصحابة والتابعون من قبلنا؟
أم نتركها تمرّ كأنها لم تكن؟