الدراما الدينية بين الرسالة والإساءة.. صورة رجل الدين تحت مجهر الفن والإعلام

تحقيق: مصطفى علي
في السنوات الأخيرة، أصبحت الدراما الدينية في العالم العربي والإسلامي محل نقاش واسع وجدال محتدم فبينما ينظر إليها البعض كوسيلة فعّالة لنشر القيم الإسلامية وإبراز سماحة الدين، يرى آخرون أنها تحولت إلى منصة لتشويه صورة رجل الدين، وتقديمه في قوالب سلبية مشوهة، إما كرمز للانتهازية أو كصورة للتعصب والجمود وهكذا، يبقى السؤال حاضرًا: هل تؤدي هذه الأعمال دورًا إصلاحيًا في خدمة المجتمع، أم أنها تسهم في نشر صور ذهنية مغلوطة تهدد مكانة العلماء في وعي الناس؟
منذ العصور الأولى للإسلام، ارتبط العلماء بصورة القدوة والورع، فهم الذين وصفهم الله تعالى بقوله:
﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28].
فالعالم في الإسلام ليس مجرد ناقل للعلوم الشرعية، بل هو نموذج أخلاقي وروحي يحتذى به، يربط بين العلم والعمل، ويقود الناس إلى الهداية إلا أن تطور الدراما العربية أدخل رجل الدين في قوالب جديدة، أحيانًا بعيدة عن هذا الجوهر، لتظهر صورته أحيانًا كرجل انتهازي يلهث وراء مصالحه، وأحيانًا أخرى كشخص منفصل عن الواقع، عاجز عن التعامل مع تحديات العصر. وفي كل الأحوال، جرى تهميش الصورة الحقيقية للعالم الرباني الزاهد.
الفن في ميزان الإسلام.. بين الإباحة والتوجيه
الإسلام لم يقف موقفًا عدائيًا من الفنون، بل نظر إليها بوصفها وسيلة قد تحمل الخير أو الشر بحسب مضمونها وقد جاء في الحديث الشريف: «إن من الشعر لحكمة» (رواه البخاري)، مما يعني أن الكلمة الفنية يمكن أن تكون مصدرًا للحكمة والوعي.
وبالقياس، فإن السينما والدراما قادرتان على أداء دور دعوي وتربوي مهم، إذا التزمتا بالضوابط الشرعية لكن صناعة الدراما كثيرًا ما تخضع لمعادلات السوق ومصالح المنتجين، فيغلب الطابع التجاري على القيمي، وتتحول صورة رجل الدين إلى أداة للتهكم أو الإثارة بدلًا من أن تكون مصدرًا للإلهام والتقدير.
من أبرز الإشكاليات أن بعض الأعمال الفنية تخلط عمدًا أو جهلًا بين رجل الدين الحق، الذي يستمد علمه من الكتاب والسنة، وبين نماذج منحرفة مثل المتشددين أو الدجالين هذا الخلط يؤدي إلى ترسيخ صورة سلبية في أذهان المشاهدين، ويضعف ثقتهم في العلماء والمؤسسات الدينية.
وهنا يستحضر العلماء قول النبي ﷺ: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين» (رواه البيهقي). فالتمييز بين العلماء الحقيقيين وأصحاب الانحراف واجب شرعي وأخلاقي، وتجاهله يضر بالمجتمع ككل.
مسؤولية الفنانين والمنتجين.. بين الفن والرسالة
لا يمكن إعفاء صناع الدراما من مسؤولياتهم أمام الله والمجتمع. فالمسلم مأمور بالعمل الصالح، كما قال تعالى: ﴿وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ﴾ [التوبة: 105]. وبالتالي، فإن أي إنتاج فني يجب أن يخضع للسؤال: هل يعزز القيم الصحيحة، أم يهدمها ويسخر من رموزها؟
في تاريخ الفن العربي، ظهرت نماذج مشرقة مثل المسلسلات التاريخية والدينية التي تناولت قصص الأنبياء، والفتوحات الإسلامية، وسير العلماء. هذه الأعمال ساهمت في تعريف الأجيال بتاريخها الديني وربطها بالقدوة الصالحة لكن هذا اللون من الدراما بدأ يتراجع أمام أعمال تجارية سطحية تسعى وراء الإثارة والجدل أكثر من ترسيخ القيم.
الانعكاسات الاجتماعية والثقافية.. صورة الدين تحت التهديد
تشويه صورة رجل الدين في الدراما لا يقف عند حدود الفن، بل يتعداه إلى تأثيرات أعمق على المجتمع فحين يرى المشاهد رجل الدين كرمز للتعصب أو مادة للسخرية، تتزعزع الثقة في المؤسسة الدينية نفسها، ويُفتح الباب أمام التيارات الإلحادية أو الانحرافات الفكرية.
وقد حذر القرآن الكريم من الاستهزاء بالدين ورموزه في قوله تعالى:
﴿قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ [التوبة: 65-66].
وبالتالي، فإن أي إساءة متكررة لرجل الدين في الدراما ليست مجرد “حرية إبداعية”، بل لها تبعات فكرية ودينية خطيرة تهدد الوعي الجمعي.
نحو رؤية شرعية متوازنة للفن
من منظور الشريعة الإسلامية، المطلوب ليس محاربة السينما والدراما كأدوات ثقافية، وإنما توجيهها الوجهة الصحيحة. فالفن يمكن أن يكون أداة بنّاءة لنشر الفضيلة وتعزيز الهوية الإسلامية، إذا ارتبط بالمضمون الراقي والالتزام الأخلاقي.
كما أن المؤسسات الدينية مطالبة بالانفتاح على الوسط الفني، عبر تقديم الاستشارات الشرعية ومراجعة النصوص الفنية قبل عرضها، بما يضمن احترام صورة رجل الدين، وحماية المجتمع من آثار التشويه.
الدراما الدينية في العالم العربي والإسلامي تقف اليوم أمام مفترق طرق حاسم: فإما أن تصبح جسرًا للتنوير وبث القيم الإسلامية، أو تتحول إلى سلاح يهدم صورة الدين ورجاله في الوعي العام. المسؤولية هنا مشتركة:
الفنانون والمنتجون مطالبون بتحمل مسؤولياتهم الأخلاقية.
العلماء والمؤسسات الدينية مدعوون للمشاركة الفاعلة في تصحيح المسار.
الجمهور بدوره يجب أن يكون ناقدًا واعيًا، يرفض الإساءة، ويدعم الأعمال الهادفة.
إن مستقبل صورة رجل الدين في الدراما مرهون بقدرتنا جميعًا على إيجاد معادلة متوازنة، تجعل الفن وسيلة لخدمة الرسالة الإسلامية، لا أداة للنيل منها.