مقالات

هبة صالح تكتب: فيديو قصير يسرق أجيالنا

في الماضي، كانت العائلة العربية تلتف حول شاشة واحدة، تشاهد نشرة الأخبار أو مسلسل السهرة، ويعلو صوت الضحك في غرفة الجلوس.

أما اليوم فقد تغيّر المشهد تمامًا، كل فرد يحدق في شاشته الصغيرة، حتى على مائدة الطعام العيون ليست على الأطباق بل على مقاطع لا تتجاوز بضع ثوانٍ،  فجأة ينفجر الطفل ضاحكًا من مقطع “بلوجر” يقلد شخصية سطحية، أو يقلد رقصة غريبة أمام المرآة، أو يردد كلمات لا يعرف معناها.

ما يبدو ترفيهًا عابرًا يخفي وراءه تحولًا ثقافيًا عميقًا، ثقافة تتسلل إلى بيوتنا وغرفنا، وتتسلل قبل ذلك إلى عقول أطفالنا وشبابنا.

 غزو بلا جيوش يغتال أجيال الشباب

هذه ليست مبالغة، بل هو “غزو ناعم” لا يحتاج إلى مدافع ولا دبابات، يكفي أن يتشرب أطفالنا رسائل يومية من مقاطع عابرة تشكك في الدين تحت شعار الحرية، وتسخر من العادات والتقاليد، وتقدّم الانتماء للوطن وكأنه عبء ثقيل.

كلمة بسيطة من ابن يقول لأمه “دي حاجات قديمة يا ماما” تكفي لكسر قلبها، لأنها تدرك أن ما تربى عليه لم يعد بالنسبة له “طبيعيًا” بل “قديمًا”.

ومع تكرار هذه الرسائل، يصبح ما تعلّمه في بيته شيئًا ثقيلاً، وما يراه على الشاشة “موضة” و”مستقبل”، فيبدأ يقلّد لهجات أجنبية، يرفض أغاني وطنه وربما يسخر منها، ويشعر أن الحديث عن الهوية الوطنية محاضرة مملة لا علاقة لها بحياته.

والأخطر أن بعض من يُطلق عليهم “مؤثرين” أو “تيك توكرز” يقدّمون أفكارًا مغلفة بالضحك لكنها تهدم الأساس: تشويه المفاهيم، نشر معلومات مضللة، تقليل قيمة الأسرة والدين، وبث شعور بأن الهجرة والانسلاخ عن المجتمع هو الحلم، إنها عملية بطيئة لكنها فعّالة، تفقد الشاب ارتباطه بجذوره دون أن يشعر.

 الحل يبدأ من البيت

ومع ذلك يبقى الأمل كبيرًا، والحل ليس في منع الهواتف أو إغلاق التطبيقات، فهذا ضرب من المستحيل، إنما الحل يبدأ من البيت: حين يجلس الأب بجوار ابنه يضحك معه على مقطع نظيف، وحين تحكي الأم قصة أو حكاية قديمة بأسلوب مشوق يجعل الطفل متحمسًا لمعرفتها، فحين تقدّم الأسرة بدائل ممتعة تجعل الشاب يكتشف أن هويته ليست عبئًا بل مصدر فخر.

المدرسة كذلك لها دور محوري؛ يمكن أن تستعيد الأنشطة والرحلات التي تربط الطلاب بتراثهم وتجعل حب الوطن تجربة يعيشونها لا مجرد شعار يردّدونه.

أما الإعلام، فيجب أن ينافس بنفس أدوات الشباب: محتوى عصري جذاب، ممتع، وذكي، يضحكهم ويسليهم لكن دون أن يسرق عقولهم.

إن جيل “التيك توك” ليس عدواً، بل هم أبناؤنا وإخوتنا، إن تركناهم وحدهم سيذوبون في عالم آخر، أما إذا فهمنا لغتهم وقدمنا لهم هويتنا في ثوب عصري، فسوف يتحولون إلى جيل قوي، فخور بجذوره، منفتح على العالم، وقادر على صناعة محتوى يليق بقيمنا وينافس في ساحات العالم الافتراضي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights