أخبار

الشيخ محمد رفعت.. صوت خالد ورحلة حياة ملهمة

 

يُعد الشيخ محمد رفعت أحد أبرز قرّاء القرآن الكريم الذين تجاوزت شهرتهم حدود الزمان والمكان، ليصبح اسمه رمزاً من رموز التلاوة العذبة والروحانية العميقة.
لم يكن مجرد قارئ للقرآن، بل كان مدرسة فنية وروحية قائمة بذاتها، أثرت في كل من استمع إليه، وساهمت في تشكيل وجدان الأمة الإسلامية.

النشأة والتكوين: من فقد البصر إلى بصيرة القرآن

وُلد الشيخ محمد رفعت في حي المغربلين بالقاهرة عام 1882 في أسرة متواضعة، وكان طفلاً استثنائياً في شتى تفاصيل حياته.

تعرض لابتلاء كبير بفقدان بصره في الثانية من عمره بسبب مرض، لكن هذا الابتلاء لم يمنعه من أن يكون نموذجاً للعزيمة.
أرسله والده إلى “كتاب” مسجد فاضل باشا في درب الجماميز بالسيدة زينب، وهناك بدأ حفظ القرآن الكريم.
أكمل الحفظ في الخامسة من عمره، وهي سن صغيرة جداً مقارنة بأقرانه.
لم يتوقف تفوق الشيخ عند الحفظ فقط؛ فقد تعلم علم القراءات والتفسير، ودرس المقامات الموسيقية التي ساعدته لاحقاً على أداء التلاوة بشكل غير مسبوق.

شخصية متفردة منذ الطفولة

تميز الشيخ محمد رفعت منذ صغره بصفات جعلته قريباً من قلوب من حوله كان هادئ الطباع، ملتزماً بتعاليم الدين، ورغم إعاقته البصرية، كان محط احترام الجميع بعد وفاة والده وهو في التاسعة، تحمل مسؤولية الأسرة الصغيرة، وهو ما أكسبه نضجاً مبكراً انعكس على أدائه لاحقاً.

التحول المهني: من مسجد فاضل إلى منبر الإذاعة

بدأ الشيخ رفعت القراءة في مسجد فاضل باشا وهو في الخامسة عشرة من عمره سرعان ما لفت الأنظار بصوته العذب وطريقته الفريدة في التلاوة، فاجتذب المستمعين من مختلف المناطق.
عندما أطلقت الإذاعة المصرية بثها الأول عام 1934، وقع الاختيار على الشيخ محمد رفعت ليكون أول قارئ قرآن يُفتتح به هذا البث تلا أولى آيات سورة الفتح: “إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً”، وكان هذا الحدث بمثابة بداية عصر جديد لتلاوة القرآن الكريم عبر الأثير.

أول قارئ عالمي

لم تتوقف شهرة الشيخ محمد رفعت عند حدود مصر. عندما سمعت الإذاعة البريطانية (BBC) صوته، طلبت منه تسجيل بعض سور القرآن الكريم. لكنه رفض في البداية اعتقاداً منه أن إذاعة القرآن للمستمعين غير المسلمين قد تكون محرّمة.
استفتى الشيخ الإمام المراغي، شيخ الأزهر، الذي أوضح له أن تسجيل القرآن الكريم ليس محرماً طالما أنه يُذاع باحترام بعدها سجل لهم سورة مريم، لتكون أول خطوة نحو تعريف العالم بجمال تلاوة القرآن على الطريقة المصرية

فن التلاوة: مدرسة الشيخ محمد رفعت

ما يميز الشيخ محمد رفعت عن غيره هو أسلوبه الفريد في التلاوة اعتمد الشيخ على أسلوب يبدأ بالتدريج؛ حيث يبدأ بصوت منخفض مليء بالخشوع، ثم يرتفع صوته تدريجياً ليصل إلى ذروة الإحساس.
كانت تلاوته تعتمد على استخدام المقامات الموسيقية بشكل متناغم مع معاني الآيات.
فقد كان يُجيد التعبير عن مشاعر الآيات المختلفة، سواء كانت تتحدث عن الرحمة، الوعيد، أو القصص.

أثر صوته في الجمهور

كان صوت الشيخ محمد رفعت بمثابة وسيلة اتصال مباشرة بين النص القرآني وقلب المستمع بفضل طريقته المميزة، كان المستمع يشعر بمعاني الآيات وكأنها تتحدث إليه شخصياً. أبكى صوته كثيرين، وجعلهم يعيشون لحظات من الخشوع والروحانية لا تُنسى.

تسجيلاته النادرة والجهود الشخصية

على الرغم من قلة الإمكانيات التقنية في ذلك الوقت، إلا أن محبي الشيخ محمد رفعت حرصوا على تسجيل صوته خلال جلسات التلاوة في المسجد أو المناسبات الخاصة.
كانت تلك التسجيلات ثمينة للغاية، إذ بفضلها وصل إلينا إرثه اليوم. وبالرغم من أنها غير مسجلة بجودة عالية، إلا أنها لا تزال تحتفظ بجمالها، وتُذاع حتى الآن في الإذاعات المختلفة.

الألقاب: اعتراف عالمي ومحلي بعظمته

نال الشيخ محمد رفعت العديد من الألقاب التي تعكس تقدير الناس لصوته وأسلوبه، منها:

قيثارة السماء: للإشارة إلى جمال صوته وعذوبته.

الصوت الملائكي: تعبيراً عن نقاء أدائه.

كروان الإذاعة: كونه أول من افتتح بث الإذاعة المصرية.

المعجزة: لقدراته الاستثنائية في التلاوة.

صوت عذاب وصوت رحمة: لأنه كان يُجيد التعبير عن مشاعر الآيات المختلفة.

النهاية المؤلمة: المرض والصمود

في عام 1943، أصيب الشيخ محمد رفعت بمرض سرطان الحنجرة، وهو ما أجبره على التوقف عن التلاوة كان المرض اختباراً صعباً، لكن الشيخ واجهه بصبر وكرامة.
رفض الشيخ قبول أي مساعدات مالية لعلاجه، قائلاً: “إن قارئ القرآن لا يُهان”، مما يعكس قوة شخصيته وإيمانه.
بعد صراع طويل مع المرض، توفي الشيخ محمد رفعت عام 1950، تاركاً وراءه إرثاً عظيماً من التلاوات التي لا تزال تؤثر في الأجيال حتى اليوم.

إرث الشيخ محمد رفعت: الخلود عبر الأثير

لا تزال تسجيلات الشيخ محمد رفعت تُذاع في الإذاعات المختلفة وتُستخدم في برامج دينية ومناسبات إسلامية، ليبقى صوته رمزاً للخشوع والتأمل.
اليوم، وبعد أكثر من سبعين عاماً على رحيله، لا يزال تأثيره قائماً، فقد غرس الشيخ رفعت حب القرآن في قلوب الملايين، وجعل من صوته نافذة على جماليات النص القرآني وروحانيته.

الشيخ محمد رفعت ليس مجرد قارئ قرآن؛ بل هو رمز للالتزام، الجمال، والتأثير الذي يتجاوز حدود الكلمات ليصل إلى أعماق القلوب.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights