
ثورة 1919، التي تعد واحدة من أهم المحطات الفارقة في تاريخ مصر الحديث، لم تكن مجرد تحرك جماهيري عفوي ضد الاحتلال البريطاني، بل كانت نتاجًا لسنوات طويلة من مقاومة فكرية وثقافية للمستعمر، وكان الأزهر الشريف في صميم هذه المقاومة.
لعب الأزهر دورًا حيويًا ليس فقط في تحفيز الشعب المصري للانتفاض ضد الاحتلال، بل كان مركزًا لتعبئة القوى الوطنية، كما كانت رؤاه الفكرية جزءًا أساسيًا من المواجهة مع الاستعمار، من خلال مشاركة العلماء والدعاة الأزهريين، مثل الشيخ محمد عبده وشيخ الأزهر محمد بخيت المطيعي، يمكن تتبع التأثير الكبير لهذه المؤسسة العريقة في إحداث التحولات الاجتماعية والسياسية التي قادت إلى ثورة 1919.
الأزهر: نقطة انطلاق المقاومة الشعبية
مع بداية حكم الاحتلال البريطاني لمصر في أواخر القرن التاسع عشر، كان الأزهر في صراع فكري وثقافي مع محاولات الاستعمار البريطاني لتقويض الهوية المصرية والعربية لم يكن دور الأزهر مقتصرًا على التعليم الديني فقط، بل كان مركزًا إشعاعيًا للوعي الوطني، وظل طوال تلك الفترة أحد أبرز معاقل المقاومة الفكرية.
بحلول عام 1919، ومع اندلاع الثورة، أظهرت مؤسسات الأزهر دورها الفاعل في تعبئة الشعب المصري ضد الاحتلال.
فالأزهر لم يكن مجرد مركز ديني فحسب، بل أصبح منبرًا سياسيًا يعبر عن تطلعات الشعب نحو الحرية والاستقلال فقد خرجت من رحابه المظاهرات الحاشدة التي ضمت الطلاب والمثقفين والشيوخ، موجهة رسائل مباشرة للسلطات البريطانية بضرورة خروجها من مصر. كان ذلك بمثابة إعلان واضح أن الأزهر هو أحد الحواضن الرئيسية للمقاومة.
الشيخ محمد بخيت المطيعي: قائد المقاومة الدينية
كان الشيخ محمد بخيت المطيعي، مفتي الديار المصرية في فترة ما قبل ثورة 1919، من أبرز قادة الحركة الوطنية إذ أطلق دعوات جادة لمقاومة الاحتلال البريطاني، مستفيدًا من مكانته الدينية والسياسية في المجتمع المصري فعلى سبيل المثال، كان الشيخ المطيعي يصدر فتاوى تحث على الجهاد ضد الاحتلال البريطاني، مؤكدًا أن الوقوف ضد الاستعمار البريطاني هو واجب ديني ووطني في آن واحد.
في وقت كان فيه الأزهر يعتبر معقلًا للعلم والدين، وجد فيه الطلاب والعلماء منبرًا للتعبير عن رفضهم للاحتلال.
لم يكن هذا التحرك مقتصرًا على كبار العلماء فقط، بل كان يشمل كافة فئات المجتمع، من العلماء الأزهريين إلى الطلبة العاديين، الذين شاركوا في المظاهرات التي دعت إلى استقلال مصر.
الأزهر مركزًا للاجتماعات السرية والتنظيم الثوري
إضافة إلى كونه منبرًا للمقاومة الشعبية، كان الأزهر أيضًا مركزًا للاجتماعات السرية للثوار فقد شهد العديد من الاجتماعات التي جمعت بين قادة الثورة من مختلف التيارات السياسية والفكرية في تلك الاجتماعات، تم الترتيب للعديد من الأنشطة الثورية، وكان الأزهر المكان الأمثل لإخفاء الخطط وتنظيم المقاومة ضد القوات البريطانية، نظرًا لسمعته كمؤسسة دينية تحظى باحترام واسع في جميع أنحاء مصر.
كما عُرف عن علماء الأزهر دورهم الفاعل في توزيع المنشورات الوطنية، وجمع الأموال لدعم الثورة كانت هذه الأنشطة تُدار في سرية تامة، وكان الهدف منها هو مواجهة قمع القوات البريطانية وإبقاء شعلة المقاومة حية في نفوس المصريين.
الأزهر ومقاومة الاستعمار الفكري
لم يقتصر دور الأزهر على المقاومة المسلحة ضد الاحتلال البريطاني، بل كان له دور أساسي في مقاومة الاستعمار الفكري والثقافي في ظل محاولات البريطانيين لتغيير الثقافة المصرية وتعزيز سيطرتهم من خلال التعليم والسيطرة على الفكر، كان علماء الأزهر على وعي تام بخطورة هذه المحاولات، ولذلك عملوا على تجديد الفكر الديني وتعزيز الوعي الوطني.
كان الشيخ محمد عبده، أحد أعظم المفكرين الأزهريين في ذلك العصر، من أبرز الداعين إلى مقاومة الاستعمار الفكري فقد قام عبده بإصلاح الفكر الديني من خلال نشر مفاهيم التنوير والعقلانية.
دعا عبده إلى إعادة النظر في تفسير النصوص الدينية بما يتناسب مع التحديات المعاصرة، مؤكدًا على أهمية التعليم في تحرير الإنسان من قيود الاستبداد والاستعمار.
كما كان يدعو إلى وحدة الشعب المصري بغض النظر عن الدين أو المذهب لمواجهة الاستعمار.
التعليم الأزهري كأداة لتحصين الهوية الوطنية
كان الأزهر من خلال مناهجه التعليمية وتوجهاته الفكرية يشكل خط الدفاع الأول ضد محاولات طمس الهوية الوطنية فقد كان للطلاب في الأزهر دور كبير في نقل الأفكار الوطنية إلى الشعب المصري من خلال تعلمهم الدين وفهمهم للواقع السياسي والاجتماعي، كان هؤلاء الطلاب يشكلون نواة لفكر مقاوم ضد الاستعمار الثقافي والاقتصادي.
في الواقع، كان الكثير من العلماء الأزهريين يصرون على ضرورة أن يكون التعليم الأزهري أداة للتحرير وليس فقط للعلم.
حيث اعتبروا أن نشر التعليم الوطني والديني الصحيح هو السبيل إلى الحفاظ على الهوية المصرية في مواجهة محاولات الاستعمار.
الأزهر وتشكيل الهوية الوطنية الحديثة
لم يكن الأزهر مجرد مؤسسة دينية في عصر ثورة 1919، بل كان يشكل جزءًا أساسيًا من الهوية الوطنية المصرية من خلال مقاومته للاحتلال البريطاني، سواء في الساحات الشعبية أو على مستوى الفكر والتعليم، أظهر الأزهر دوره الريادي في تأصيل مفاهيم الوطنية والاستقلال في المجتمع المصري وكان هذا الدور حاسمًا في إحداث تحولات ثقافية وسياسية أدت في النهاية إلى استقلال مصر.
الأزهر وأثره المستمر في تاريخ مصر
ثورة 1919 لم تكن مجرد مواجهة مع الاحتلال البريطاني، بل كانت أيضًا صراعًا على الهوية والوجود الوطني وقد كان الأزهر بمثابة بوصلة فكرية وروحية ساعدت على توجيه الشعب المصري نحو هدفه الأساسي: الاستقلال والتحرير. ولا يزال الأزهر يمثل في قلوب المصريين رمزًا للمقاومة الوطنية والفكرية في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، وهو ما يعكس تأثيره العميق في التاريخ المعاصر لمصر.