أمي الحبيبة الراحلة كانت الوصية بسيطة لكنها ثقيلة كالجبال.. ابقوا معًا .
لا تتركوا لبعضكم إلا الحب والحنان كانت تلك الكلمات وصية أمي . أكتب لك هذه الكلمات وأنا أشعر أنني صغيرة كما كنت في حضنك، لكن الحياة كبرتني و أوجعتني حتى أصبحت لا أشبه نفسي كانت أمي تمتلك الحاسة السادسة تعرف أن الأيام القادمة لن تكون سهلة، وكانت تخشى أن تغتالنا قسوة الحياة وتفرق بيننا قلوبًا كنا نظنها لا تعرف الانفصال، كانت تقول لنا لا تتركوا بعضكم مهما حدث الحب هو الذي سيحميكم عندما تتكالب الدنيا عليكم، كنت تزرعين بيننا بذور الرحمة، وأنا يا أمي كنت أرويها بكل ما أملك من حنان كنت تلك الابنة التي ولدت بين سبعة إخوة، لا كبيرة ولا صغيرة فقط قلب اختار أن يكون جسرًا بينهم،
حاربت كثيرًا لأحمي تلك الوصية.
كلما حاولت الحياة أن تسرقنا، كنت أمد يدي وأمسك بهم أخاف عليهم أكثر مما أخاف على نفسي
ولكن يا أمي كيف أحارب طمع الزمان؟ كيف أعيد الترابط لمن قسمتهم الحياة؟ كنت قلب الأسرة النابض بالحياة والحنان والعطاء، جسرًا من نور بين إخوتي كنت أقاتل كل يوم كي أحفظ تلك الوصية حية، رغم أن الرياح كانت تعصف من كل اتجاه، حين رحلت أمي، رحلت معها البركة والترابط تسلل الغبار إلى زوايا قلوبنا غطى الحب بحجب كثيفة من الطمع والغيرة، والحقد الذي تبرر كل واحد منا فيه لنفسه، وكأن قسوة الدنيا رخصة للهجر و الخصام
تقاذفتنا الظروف المادية كما تتقاذف الرياح أوراق الخريف وأصبح الأخ عدو أخيه والأخت تغلق قلبها بوجه أختها.
صرخت فيهم جميعًا وصية أمي لا تنسوها بكيت، حاربت، ضممت كل منهم مرة ومرة، وخسرت نفسي ألف مرة.. لكنهم مضوا كل في طريقه وبقيت وحدي.. أقلب الذكريات كأنها رماد بين يدي كل ما حاربت من أجله ذاب تحت شمس الواقع اللاهبة، وأصبحت أنا الوحيدة التي تردد الوصية بصوت مكسور تتوسل إلى فراغ لا يرد، اليوم يا أمي أكتب إليك وأنا وحيدة ليس لأنني تخليت عنهم بل لأنهم هم من تخلوا عن بعضهم، تاهوا في طرقاتهم البعيدة،ط وقست قلوبهم كما يقسو الحجر تحت المطر حاولت أن أكون الوطن لهم ولكن لا أحد عاد واليوم أكتب لك يا أمي
لا تبكي لأنك علمتني الحب حتى حين جرحت به لا تبكي لأنني اخترت أن أحمل وصيتك حتي لو كنت وحدي، أمي لا تبكي فأنا لم أنكسر، ولم أخن عهدك أنا لا زلت أحب، وأغفر، وأنتظر،
رغم أن الانتظار يؤلمني أكثر .
لا تبكي لأن الطيبين الذين يشبهونك في هذا العالم قليلون جدًا، ورحيلهم يترك فراغات لا يملأها أحد، أتعلمين يا أمي؟ في زمنٍ أصبح الناس فيه يحقدون بدل أن يحبوا، ويحسدون بدل أن يباركوا، وينسون بدل أن يتذكروا، كانت وصيتك تبدو قديمة، عتيقة كأنها قصة من زمن الأوفياء اليوم تبدو الأخوة عملة نادرة والرحمة طائرًا مهاجرًا لا يعرف متى يعود لم يعد يجمع الإخوة سوى الميراث ولا تسكب الدموع إلا على المصالح، وأما من يبكي فراق الأخ فهو غريب عن هذا الزمان، ولكن علمتني أمي أن الطيبين لا يخسرون حتى لو بدا العالم وكأنه هزمهم، إلى كل أخ وأخت تذكروا أن الحياة قصيرة، وأن القلوب لا تعوض ولا تسمحوا لفتات الدنيا أن يفرق بينكم، ولا تدعوا شبح الغربة يسكن بيوتكم وأنتم أحياء، أمهاتنا حين يغرسن في قلوبنا المحبة، لا يطلبن شيئًا مقابلها إلا أن نبقى لبعضنا سندًا لا تخذلوا وصاياهم
كونوا لبعضكم كما كانت أمهاتكم تحلم وتمسكوا ببعضكم مهما قست الأيام فالمال يذهب، والمناصب تزول، ولا يبقى إلا دفء الأخوة ونقاء القلوب
لا تبكي يا أمي، فحبك انتصر في قلبي، ابنتك التي لن تخن حبك يومًا، اللهم اغفر لأمي وارحمها واسكنها فسيح جناتك كما وسعت قلبي بحبها وحنانها اللهم أجعل قبرها نورًا، واجعلها من السعداء عندك اللهم اجزِها عني وعن إخوتي خير الجزاء، وحقق لها ما تمنت لنا من حب ووحدة ورحمة،اللهم كما ربتنا صغارًا بحبها، فارزقنا برها أحياءً وأمواتًا،واجمعنا بها في جنتك على سرر متقابلين، لا تفصل بيننا غربة ولا فراق يارب العالمين ،
