
تقرير: راجح بكر- مروة محي الدين
عقدت الصين والاتحاد الأوروبي، قمة رفيعة في العاصمة الصينية بكين، بمناسبة مرور 50 عاماً على بدء العلاقات الدبلوماسية بين الجانبين، وسط أجواء توتر سياسي وتجاري لم تُخفِها الابتسامات الرسمية، ووسط ضغوط أوروبية متزايدة لكبح الدعم الصيني لروسيا، وإعادة التوازن للعلاقات التجارية المختلّة.
وفي ذلك يقول الدكتور “محمد الألفي”- خبير الإقتصاد السياسي- في تصريحات خاصة لجريدة وموقع اليوم: “يعاني الاتحاد الأوروبي من انقسام داخلي نحو الصين، بين دول تراها شريكًا اقتصاديًا حيويًا، وأخرى تشكك في نواياها بسبب دعمها روسيا في الحرب مع أوكرانيا، ومن هنا تركزت القمة على تغير المناخ والاستثمار في البنية التحتية الخضراء، وسط ضغط أمريكي على أوروبا، لتقلل اعتمادها على الصين لاسيما في التكنولوجيا- أشباه الموصلات (5G)”
وأضاف: “وعلى الجانب الآخر، تستغل الصين الانقسام الأوروبي عبر دبلوماسية الفرص، عبور مشروعات مثل: مبادرة الحزام والطريق في المجر وصربيا، ليبقى التحدي أمام أوروبا في تنسيق السياسة الأوروبية الموحدة، في ظل مصالح الأعضاء المتباينة”.
وقد ترأس الوفد الأوروبي رئيسة المفوضية الأوروبية “أورسولا فون دير لايين”، ورئيس المجلس الأوروبي “أنطونيو كوستا”، في حين ترأس الجانب الصيني الرئيس “شي جين بينغ” ورئيس الوزراء “لي تشيانج”، في لقاءٍ رفيع يُعدّ الأول منذ سنوات بعد جائحة كورونا وتجميد الحوار الثنائي.
توافق مناخي وتنافر تجاري
على الرغم من نجاح القمة في التوصل إلى إعلان مشترك بشأن المناخ يدعم اتفاق باريس، ويؤكد التزام الطرفين بالتحضير الجاد لقمة المناخ المقبلة (COP30) في البرازيل، ظلت الخلافات حول التجارة والدعم الصناعي الصيني أبرز محاور الجدل.
وأكدت “لايين”: أن “العلاقة بين الصين والاتحاد الأوروبي وصلت إلى نقطة انعطاف”، مشيرة إلى أن العجز التجاري الأوروبي مع بكين بلغ أكثر من 300 مليار يورو العام الماضي، وأن هناك حاجة إلى إعادة التوازن التجاري، وفتح الأسواق الصينية أمام المنتجات الأوروبية بشكل عادل.
وحول مسألة العجز التجاري مع الصين، يرى “الألفي”: أن “العجز نشأ بفعل استيراد أوروبا لمنتجات صينية منخفضة التكلفة، مثل: الإلكترونيات، والألواح الشمسية، وفرض الصين قيودا على المنتجات الأوروبية مثل: السيارات الفاخرة الألمانية، الوصول إلى قطاعاتها الاستهلاكية”.
ولفت إلى أن: “لحل مشكلة العجز ينبغي: تفعيل آليات الحماية التجارية، وذلك على سبيل المثال عبر فرض رسوم إغراق على السيارات الكهربائية الصينية؛ وتعزيز تصدير التكنولوجيا الأوروبية، مثل: المعدات الطبية، والكيماويات المتخصصة؛ ومن هنا قد تقدم بكين تنازلات محدودة عبر فتح قطاعات مختارة، لتفادي فقدان السوق الأوروبية، التي تمثل 15% من صادراتها”.
كذلك تبرز قضية تصدير المعادن النادرة لأوروبا، حيث “تتحكم بكين في 90% من إمدادات المعادن النادرة عالميًا، وتستخدمها كسلاح جيوسياسي، كما حدث مع اليابان 2010؛ وعلى جانب آخر، قد يؤدي التقييد الصيني إلى التعجيل بمشروعات أوروبية للبحث عن بدائل في أفريقيا وجرينلاند على سبيل المثال، إذ أن تلك المعادن حيوية لصناعة الأسلحة والطاقة الخضراء”- حسب “الألفي”.
ضغط أوروبي بشأن أوكرانيا
لا تزال الحرب الروسية على أوكرانيا تلقي بظلالها على العلاقات الأوروبية الصينية، وما دفع القادة الأوروبيين لدعوة الصين إلى “تحمّل مسؤولياتها الدولية”، والضغط على موسكو لإنهاء الحرب والالتزام بميثاق الأمم المتحدة.
ورغم تأكيد بكين على التزامها بالسلام، فإن التقارير الغربية أشارت إلى استمرار تدفق التكنولوجيا والمكونات الصينية نحو الصناعات الروسية، وهو ما تعتبره أوروبا “دعماً غير مباشر للحرب”، بحسب دبلوماسيين أوروبيين تحدثوا للعربية، حيث تحاول أوروبا الحد من الشراكة الصينية الروسية.
وقد علق “الألفي” على ذلك، فقال: “ثمة شراكة إستراتيجية بين الصين وروسيا منذ 2014، وعليه لن تتخلى بكين عن موسكو لحاجتها للطاقة والأسواق، وذلك على الرغم من التهديدات الأوروبية بفرض عقوبات ثانوية على الشركات الصينية الداعمة للجيش الروسي، وطالما استمرت الصين في بيع مكونات عسكرية- مثل الرقائق الإلكترونية- لروسيا، سيكون أي تقارب صيني-أوروبي سطحيًا”.
علاقات على المحك
تأتي القمة في لحظة حرجة، إذ تصادف مرور 50 عاماً على تأسيس العلاقات بين الطرفين عام 1975، التي شهدت تعاوناً واسعاً في مجالات: التجارة والتعليم والطاقة والمناخ، إلا أن السنوات الأخيرة حملت الكثير من التوتر، خصوصاً بعد تصنيف الاتحاد الأوروبي للصين عام 2019 على أنها “شريك ومنافس منهجي في آنٍ واحد”.
ويرى مراقبون أن العلاقة باتت أكثر تعقيداً، مع تزايد القلق الأوروبي من “الإغراق الصناعي الصيني”، ودعم بكين لشركاتها الوطنية، إلى جانب مخاوف أمنية بشأن التكنولوجيا، وتراجع الاستثمارات الأوروبية في السوق الصينية.
يرى “الألفي”: أن أوروبا ترغب في عمل علاقة متوازنة مع الصين، تقوم على التعاون الاقتصادي والضمانات الأمنية، بحيث يتم إصلاح نظام التجارة لمنع الإغراق الصيني، ووقف دعم بكين للتقنيات المزدوجة الاستخدام التي تصل إلى روسيا، بينما ترفض الصين الربط بين الملفين، ولرأب هذا الصدع يتعين عليهم إنشاء منصة حوار أمني صينية- أوروبية لإدارة الأزمات”.
وأضاف: “ولعزل المعسكر المتشدد في أوروبا، قد تقدم الصين هدايا لألمانيا، مثل: فتح سوق السيارات، ومن هنا تنتهي القمة بضخ استثمارات صينية في الهيدروجين الأوروبي، وعليه تتمكن أوروبا من تقليل الاعتماد على الغاز الروسي، عبر الطاقة المتجددة المدعومة صينيًا، وعلى جانب آخر تخفف من متطلبات التراخيص في الصين، باعتبارها تسهيلات للشركات الأوروبية”.
الحاضر الغائب في القمة
على الرغم من غياب الولايات المتحدة عن القمة، إلا أن تأثيرها بدا واضحاً، فالعلاقة الأوروبية الصينية لا تُقرأ بمعزل عن العلاقات الأوروبية الأمريكية، إذ تعمل بروكسل على خط دقيق بين الحفاظ على مصالحها مع بكين، وعدم التفريط بتحالفها الاستراتيجي مع واشنطن.
وتسعى واشنطن منذ سنوات لحثّ الأوروبيين على تقليل الاعتماد على الصين، خاصة في مجال المعادن النادرة والتقنيات الحديثة، وهو ما انعكس في تصريحات سابقة “للايين” عن: “الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي”.
كما أن الاتحاد الأوروبي بدأ مؤخراً خطوات لتعزيز شراكاته مع الولايات المتحدة، ودول آسيا الحليفة، في محاولة لإيجاد توازن في وجه التحديات التي تفرضها الصين.
وأشار “الألفي” إلى أن الصين تقدم نفسها لأوروبا شريكًا بديلًا للولايات المتحدة، فقال: “على الرغم من تخوفات أوروبا من الإغراق التجاري الصيني، حيث تهدد المنتجات الصينية الرخيصة الصناعات المحلية مثل: الطاقة المتجددة، وتخوفاتها من عدم إدانة بكين الغزو الروسي، وضعف ثقتها فيها، تعتمد الصين سياسة فرق تسد، حيث تعزز علاقاتها الثنائية مع دول أوروبية فردية، مثل: إيطاليا والمجر؛ ويعتمد نجاحها على قدرتها على تقديم بدائل ملموسة للاستثمارات الأمريكية، لاسيما في البنية التحتية الرقمية”.
ورجح “احتمالات تفاوض الصين على اتفاق ثلاثي، يشمل: أمريكا- أوروبا- الصين، لإصلاح نظام التجارة العالمي؛ فبينما تستخدم بكين أوروبا جسرًا للضغط على واشنطن لتخفيف القيود عليها، وتستخدم تكتيك دعم الاتحاد الأوروبي في منظمة التجارة العالمية لرفع الدعاوى ضد واشنطن، تنظر أوروبا للولايات المتحدة باعتبارها حليفتها الأمنية الأساسية، ولا ترغب في دخول حربا تجاريا معها”.
وأضاف: “في عالم متعدد الأقطاب، يعمل كل طرف على تحقيق أعلى مكاسب فردية يمكن جنيها؛ فتحاول الصين تفكيك التحالف الغربي عبر التطويق الناعم لأوروبا؛ بينما تحاول أوروبا تحقيق (التوازن المستحيل) بين الأمن مع أمريكا والفرص الاقتصادية مع بكين؛ فيما تسعى الولايات المتحدة لإشعال حربًا تجارية لشلّ نمو الصين، دون اكتراث بمصالح أوروبا مع التي قد تكون ثمنًا لتلك الحرب”.
التنافس والتعاون
ويبدو أن القمة لم تُذِب الجليد العالق في ملفات شائكة، لكنها حملت مؤشرات على رغبة الطرفين في إبقاء قنوات الحوار مفتوحة، خاصة في قضايا المناخ، والطاقة المتجددة، والتعليم.
وحسب “الألفي”: “حسنت القمة صورة الصين باعتبارها قوة مسؤولة لاسيما في ملف المناخ؛ وبالنسبة لأوروبا، فقد جذبت الاستثمارات الصينية لتمويل التحول الأخضر، وإن كانت تطمح لتنويع شركائها، عبر تقليل الاعتماد على أمريكا في الطاقة والأمن”.
وكانت النتيجة النهائية، أن ما خرج من القمة لا يرتقي إلى مستوى إعادة ترميم الثقة، بل يؤكد أن العلاقات بين أوروبا والصين دخلت مرحلة جديدة، تحكمها المصالح الصلبة، أكثر من الشعارات الدبلوماسية.