حرب الرسوم الجمركية: تصعيد بين الصين والولايات المتحدة يهدد استقرار الاقتصاد العالمي

في تصعيد جديد للحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة، أعلنت الصين فرض رسوم جمركية تصل إلى 84% على الواردات الأميركية، ردًا على الرسوم الجمركية التي فرضتها الولايات المتحدة على المنتجات الصينية. الصين أيضًا أدرجت 6 شركات أميركية في قائمة “الكيانات غير الموثوقة”، ما يزيد من تعقيد العلاقة التجارية بين البلدين.
هذا التصعيد يهدد استقرار سلاسل التوريد العالمية ويؤثر على الاستقرار التجاري الدولي، حيث قامت الولايات المتحدة بزيادة الرسوم الجمركية إلى أكثر من 100%، في وقت تواصل فيه الصين الرد بالمثل.
البيانات تشير إلى زيادة فائض الصين التجاري مع الولايات المتحدة إلى 295.4 مليار دولار في 2024، مما يبرز الاختلالات الهيكلية بين اقتصادات البلدين. الصين أكدت أن الحرب التجارية ليست عن رغبتها في الفائض التجاري، بل بسبب السياسات الأميركية الحمائية.
وبذلك تتسارع وتيرة التوترات التجارية بين الصين والولايات المتحدة بصورة تنذر بتغيرات جذرية في بنية الاقتصاد العالمي. ومع كل جولة جديدة من التصعيد، يزداد القلق الدولي من تأثيرات هذه الحرب التجارية التي لا تقتصر على حدود البلدين، بل تتسرب تداعياتها إلى مختلف دول العالم، مهددة الاستقرار المالي والتجاري، ومثيرة مخاوف من عودة السياسات الحمائية واحتدام التنافس الجيوسياسي.
الأضرار المحتملة على الاقتصاد العالمي
يُنظر إلى التصعيد الأخير بين الصين والولايات المتحدة باعتباره تهديدًا مباشرًا للاستقرار الاقتصادي العالمي، إذ إن هذا التوتر المتصاعد بين أكبر اقتصادين في العالم ينعكس سلبًا على حركة التجارة الدولية، ويزيد من حالة القلق في الأسواق. من أبرز الآثار المحتملة هو اضطراب سلاسل التوريد العالمية، حيث تؤدي الرسوم الجمركية المرتفعة إلى تقليص جدوى حركة السلع بين البلدين، ما يعطّل عمليات الإنتاج في العديد من الدول التي تعتمد بشكل مباشر على مكونات أو مواد خام يتم استيرادها من الصين أو الولايات المتحدة. هذا الاضطراب لا يقتصر على السلع التكنولوجية فقط، بل يمتد إلى مجالات متعددة تشمل الأجهزة، قطع الغيار، وحتى السلع الاستهلاكية.
ومن جهة أخرى، فإن ارتفاع الرسوم ينعكس على تكلفة السلع المستوردة، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة في تكاليف الإنتاج ويُسهم في رفع معدلات التضخم على المستوى العالمي. القطاعات المتأثرة بشكل خاص تشمل الصناعات الإلكترونية، صناعة السيارات، والتكنولوجيا المتقدمة، حيث تُنقل هذه الزيادات إلى المستهلك النهائي، ما يؤدي إلى تراجع في القوة الشرائية في عدد من الأسواق.
في الوقت ذاته، تواجه الأسواق الناشئة خطرًا إضافيًا يتمثل في تباطؤ النمو. فهذه الأسواق تعتمد بدرجة كبيرة على انسيابية التجارة العالمية، واستقرار العلاقات بين القوى الكبرى. ومع تصاعد التوترات، فإن تذبذب الطلب العالمي وتقلص الصادرات ينعكس سلبًا على معدلات الاستثمار والتشغيل في هذه الدول، ما قد يؤدي إلى ضغوط اقتصادية ومالية متزايدة.
ولعل أحد أبرز التأثيرات الفورية للتصعيد التجاري هو تقلب الأسواق المالية. إذ تؤدي الأخبار المتعلقة بالرسوم الجمركية والردود الانتقامية إلى هزات في أسواق الأسهم، العملات، والسلع. كما تدفع حالة عدم اليقين المستثمرين إلى تجنب المخاطرة، وتفضيل الملاذات الآمنة مثل الذهب أو السندات الحكومية، مما يؤدي إلى تراجع في حجم الاستثمارات العالمية.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن استمرار هذا النهج التصعيدي قد يُحدث ما يُعرف بالعدوى التجارية، حيث تبدأ دول أخرى في اتخاذ إجراءات مماثلة لحماية أسواقها، ما يُنذر بانهيار نظام التجارة الحرة متعدد الأطراف الذي كانت ترعاه منظمة التجارة العالمية لعقود.
الأخطر من ذلك أن الثقة في النظام التجاري الدولي قد تتآكل. فمع كل جولة تصعيد جديدة، تُظهر المؤسسات الدولية عجزًا متزايدًا عن ضبط الخلافات أو احتوائها، الأمر الذي يفتح الباب أمام تغليب السياسات الحمائية كأداة للمواجهة السياسية، وليس فقط وسيلة تنظيمية اقتصادية.
في المجمل، يتفق العديد من الخبراء الاقتصاديين على أن الحرب التجارية الدائرة بين بكين وواشنطن لا تمثل مجرد خلاف ثنائي، بل هي معركة ذات أبعاد عالمية، تتغلغل آثارها في كافة أنحاء الاقتصاد الدولي، وتُهدد استقرار أسواق تعتمد بشكل كبير على الترابط والاعتماد المتبادل في عصر العولمة.
التداعيات السياسية للحرب التجارية
لا يقتصر تأثير التصعيد التجاري بين الصين والولايات المتحدة على الجانب الاقتصادي فقط، بل يتجاوز ذلك ليحمل أبعادًا سياسية عميقة قد تُعيد تشكيل النظام الدولي خلال السنوات المقبلة. هذا الصراع التجاري بات يُستخدم كأداة ضغط سياسي، حيث تسعى كل من بكين وواشنطن إلى فرض إرادتها وتوسيع نفوذها من خلال التحكم في مسارات التجارة والقدرة على فرض الشروط في الأسواق العالمية.
بالنسبة للولايات المتحدة، تمثل هذه الإجراءات جزءًا من استراتيجية أوسع لإعادة التوازن إلى العلاقات الاقتصادية الدولية، لكنها أيضًا تعكس رؤية إدارة الرئيس دونالد ترامب التي تتبنى خطابًا أحاديًا قائمًا على حماية الصناعات الوطنية وتقليل الاعتماد على الخارج، حتى وإن كان ذلك على حساب الاستقرار العالمي. ويثير هذا في الوقت ذاته قلق الحلفاء التقليديين الذين يرون في هذه المقاربة تهديدًا للنظام المتعدد الأطراف الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية.
أما الصين، فإنها تتعامل مع هذا التصعيد باعتباره تحديًا مباشرًا لمكانتها العالمية ومشروعها الطموح في الهيمنة التكنولوجية والاقتصادية. ولهذا فهي لا تكتفي بالرد الاقتصادي، بل تستخدم أدوات سياسية موازية لتعزيز تحالفاتها، خاصة في آسيا، إفريقيا، وأمريكا اللاتينية، في إطار ما يُعرف بـ”سياسة التعددية البديلة” التي تهدف إلى خلق توازن عالمي لا تهيمن عليه واشنطن وحدها.
سياسيًا، قد يؤدي هذا الصراع إلى تفكك تدريجي في منظومة التحالفات التقليدية. فالدول التي تجد نفسها مضطرة للاختيار بين السوق الأميركية والصينية قد تلجأ إلى إعادة تموضعها الجيوسياسي بما يتناسب مع مصالحها الاقتصادية، مما يزيد من تعقيد المشهد الدولي. كما أن منظمات دولية مثل منظمة التجارة العالمية ومجموعة العشرين ستواجه ضغوطًا كبيرة في محاولة التوسط أو احتواء النزاع، وهو ما يُضعف من فاعليتها ويزيد من مخاطر الانقسام العالمي.
علاوة على ذلك، فإن استمرار هذا التصعيد قد يُغذي النزعات القومية والشعبوية في عدد من الدول، خاصة تلك التي تتأثر بشدة من تذبذب الأسواق والتضخم، ما قد يؤدي إلى تغييرات في القيادات السياسية وصعود تيارات تتبنى سياسات أكثر انغلاقًا. وهو ما يهدد بعودة موجة جديدة من السياسات الحمائية والتكتلات المغلقة، ويُقلل من فرص التعاون الدولي في مواجهة تحديات عالمية مثل التغير المناخي، الأمن الغذائي، أو الأوبئة.
في النهاية، يتضح أن الحرب التجارية بين واشنطن وبكين ليست مجرد نزاع اقتصادي، بل صراع استراتيجي شامل، يعكس حالة من إعادة رسم لموازين القوى العالمية. وإن لم يتم احتواؤه، فإنه قد يكون بداية لمرحلة جديدة في العلاقات الدولية تتسم بالمواجهة، الانقسام، وتراجع التعاون متعدد الأطراف.
تأثيرات مباشرة على الدول العربية والشركات متعددة الجنسيات
لا تقتصر تداعيات الحرب التجارية المتصاعدة بين الصين والولايات المتحدة على حدود البلدين فقط، بل تمتد لتطال دولًا أخرى حول العالم، وعلى رأسها الدول العربية، التي تعتمد بشكل كبير على استقرار التجارة الدولية وأسواق الطاقة. ومن أبرز التأثيرات المحتملة هو تراجع الطلب العالمي على النفط، إذ يؤدي تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي الناتج عن التصعيد التجاري إلى انخفاض في استهلاك الطاقة، وهو ما ينعكس سلبًا على الدول المنتجة للنفط، خاصة في منطقة الخليج، التي تعتمد بشكل كبير على عائدات النفط في تمويل موازناتها.
بالإضافة إلى ذلك، فإن انكماش التجارة العالمية الناتج عن فرض الرسوم المتبادلة وتباطؤ التبادل التجاري بين أكبر اقتصادين في العالم قد يؤدي إلى تراجع في حركة الشحن والترانزيت، ما يضغط على موانئ استراتيجية في العالم العربي مثل ميناء جبل علي في الإمارات وميناء بورسعيد في مصر، والتي تعتمد على نشاط التجارة الدولية في تحقيق إيراداتها.
كما تواجه الدول العربية، لا سيما تلك التي تستورد معظم احتياجاتها الغذائية والصناعية، تحديات إضافية تتمثل في ارتفاع أسعار السلع الأساسية، نتيجة لاضطراب سلاسل الإمداد العالمية. هذا الاضطراب قد يؤثر على أسعار الإلكترونيات، المعدات، وبعض السلع الغذائية، ما يشكل عبئًا إضافيًا على الميزانيات العامة ومستويات المعيشة في بعض الدول.
أما الشركات متعددة الجنسيات، التي تعمل في أسواق متعددة وتدير عمليات إنتاج أو توزيع في المنطقة العربية، فهي تجد نفسها في موقف صعب يتطلب إعادة تقييم لسلاسل التوريد وخطط التوسع. إذ تسعى هذه الشركات إلى تقليص تعرضها للأسواق الأميركية أو الصينية، ما قد يدفعها إلى إعادة هيكلة استثماراتها أو تأجيل مشاريعها الجديدة، وهو ما قد يؤثر سلبًا على فرص العمل والنمو في الدول المضيفة.
ورغم هذه التحديات، إلا أن هناك فرصًا يمكن أن تستغلها بعض الدول العربية، خاصة تلك التي تمتلك بنية تحتية متطورة أو موقعًا جغرافيًا استراتيجيًا. فالتوتر الحالي قد يدفع بعض الشركات العالمية إلى البحث عن بدائل للتصنيع أو التوزيع خارج الصين أو الولايات المتحدة، ما يفتح الباب أمام الدول العربية لتقديم نفسها كمراكز لوجستية أو صناعية بديلة، شريطة تبني سياسات مرنة وجاذبة للاستثمار.
وختاماً يتضح من مجمل المؤشرات أن الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة باتت تتجاوز كونها خلافًا اقتصاديًا لتتحول إلى صراع استراتيجي متعدد الأبعاد. فبينما يحاول كل طرف فرض هيمنته على مسارات الاقتصاد العالمي، تتكبد الدول الأخرى، لا سيما النامية منها، كلفة هذا التصعيد في شكل اضطراب اقتصادي، وانكماش تجاري، وارتفاع في معدلات التضخم. وفي العالم العربي، تتنوع التحديات ما بين الضغط على أسعار النفط، واضطراب في تدفق السلع، وانعكاسات على الاستثمارات الأجنبية. ومع غياب أفق واضح للحل، تبقى الحاجة ملحة لتفعيل أدوات الحوار والتعاون الدولي، وإعادة إحياء المؤسسات متعددة الأطراف كوسيلة لتفادي مزيد من الانزلاق نحو نظام اقتصادي عالمي هش وغير مستقر.