
في قلب درامي للحقائق، أضاف الاحتلال لساحة حربه ساحة جديدة في ميدان الدعاية، قائمها الأساسي هو (الفتن)، وسلاحها التظاهرات الثائرة، حيث التقط قادة الاحتلال طرف الخيط من بعض التظاهرات التي خرجت أمس– الثلاثاء- في بيت لاهيا، مطالبة بوقف العدوان وحرب الإبادة التي يشنها الاحتلال على غزة، ليحيلوها لمطالب بالثورة على المقاومة.
فخرج “يسرائيل كاتس”- وزير حرب الاحتلال- بدعوة لكل أهالي القطاع لطرد حماس من غزة وإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين من يد المقاومة، وذلك عبر نموذج التظاهر فقال: “تعلموا من سكان بيت لاهيا”، واختتم رسالته التحريضية بأن تلك “هي الطريقة الوحيدة لوقف الحرب”.
تناسى “كاتس” في حديثه أن تاريخه طوال أكثر من 75 عاما لا يحمل لأهل فلسطين سوى الاحتلال والموت والدمار، الذي نطق به وزير المالية “بتسلئيل سموتريتش” في حديثه في وقت سابق عن التهجير، حين قال: إن غزة ليست موطنا حقيقيا لمن يسكنوها، لأنهم بالأصل مهجرين من يافا وحيفا… ولم ينتبه لذلك التساؤل الطبيعي الذي يرد في الأذهان فور سماع التصريح: ومن الذي هجرهم من موطنهم الأصلي؟
وبالمثل تناسى رئيس وزراءه تاريخ المآسي التي صنعتها أيديهم للشعب الفلسطيني، فأغفل “بنيامين نتنياهو” الغرض الحقيقي من تلك التظاهرات لوقف الحرب، متحدثا عنها بأنها خرجت ضد المقاومة فقط، وأشار إليها باعتبارها دليل نجاح سياسته في القتل والتدمير، معلنا عزمه على الاستمرار في تلك السياسة التي تتضح ثمارها من تلك التظاهرات، حيث أنه- حسب قوله: “يدرك عدد متزايد من الغزيين أن حماس جلبت عليهم الدمار والفقدان، ويظهر هذا كله أن سياستنا ناجحة”.
وكانت الخطوات العملية على الأرض سابقة لتصريحات المستوى السياسي، حيث كشفت معاريف العبرية: إرسال الاحتلال رسائل تحريضية ضد المقاومة بصفة عامة وحماس بصفة خاصة، لآلاف الهواتف من أهالي غزة، وكان قد سبق ذلك بإنزال منشورات تهديد لأهالي غزة ليقبلوا التهجير ويثوروا ضد المقاومة، فلما لم تفلح الرسائل الو قية كانت تلك الإلكترونية.
ميدان إكس للقتال
بداية تلك المعركة التحريضية المباشرة كانت أيضا إلكترونية، حيث شهدت ساحة موقع التواصل الاجتماعي (إكس) أكبر حملة تحريض مباشر شنها الاحتلال على حماس، مصحوبة بتلوين الحدث وفقا للصبغة الصهيونية، ما دفع النشطاء الفلسطينيين للرد عليها على الموقع، والتأكيد على ضرورة توحيد الحاضنة الشعبية على الوقوف خلف المقاومة، فأضحى الموقع ساحة للنزال كما ساحات المعارك في غزة.
بدأت المعركة بذلك الهجوم الشرس من الصحفي الإسرائيلي والناشط “إيدي كوهين” الذي استمر في التحريض ضد المقاومة، وتحميلها مسؤولية دماء الأبرياء في غزة وكأنهم لا يقتلون بنيران حكومته، ثم بعث بتغريدة- مساء أمس الأول- حملت نداء لأهالي غزة للخروج في تظاهرات في كل الشوارع ضد ما نعته “بإرهاب حماس”، صابغا تغريدته بنداءات العزة والكرامة ورفض الظلم، وبلغت دقة التغريدة لتحديد أماكن التظاهر والتجمهر.
نداء عاجل الى سكان غزة
انتفضوا ضد ارهاب حماس
موعدنا غداً الساعة الرابعة مساءً لازم صوتنا يوصل لكل الجواسيس اللي باعوا دمنا.
لازم يعرفوا إنو دمنا مش رخيص، وإنو شعب غزة ما بينكسر.
الاحتجاجات لازم تكون في كل شارع، في كل حي، بكل زاوية من غزة. خلّوهم يسمعوا صوتكم، خلّوهم يعرفوا إنو…— إيدي كوهين אדי כהן 🇮🇱 (@EdyCohen) March 25, 2025
ومع خروج تظاهرة بيت لاهيا التي عرضتها وسائل التواصل الاجتماعي وظهرت لافتاتها برفض الحرب، غرد “كوهين” جاعلا من التظاهرة انتفاضة، فقال: “عاجل… سكان غزة ينتفضون ضد إرهاب حماس”، مصحوبا بمقطع صغير لجانب من تظاهرة يهتف فيها جزء من المتظاهرين ضد حماس.
واخيراً، بدأ ضحايا تهور السنوار والضيف في القطاع بالظهور علناً ومطالبة حماس بان تكف يدها عنهم بعد ان جلبت عليهم نكبة ثانية اشد ايلاما من نكبة ١٩٤٨، وهي في طريقها الى تعريضهم لنكبة ثالثة. متى سيفهم قادة حماس والجهاد الجدد ان محاولاتهم اليائسة ثمنها المزيد من الضحايا الابرياء
— البروفسور ابراهيم دينار (@AAlakhr43644) March 25, 2025
ووجد من يسير على ذات الخطا من بني جلدته، فغرد الناشط الإسرائيلي الذي يصف نفسه بالمتخصص بالشأن الإسلامي “البروفسور إبراهيم دينار”، وأخذ التظاهرة في توجه “كوهين” ذاته، واصفا المتظاهرين بأنهم “ضحايا تهور السنوار والضيف”، لكنه اعترف “بنكبة 1948” بوصفها نمبة وليست خرب استقلال، في حديثه عما حدث للقطاع، على الرغم من تحميل حماس مسؤولية ذلك، وتوعد بالمزيد الذي ينتظر غزة فيما وصفه “بالنكبة الثالثة”، وقال: “متى سيفهم قادة حماس والجهاد الجدد ان محاولاتهم اليائسة ثمنها المزيد من الضحايا الابرياء”.
ما لم يقوله المدعو انس الشريف ان الناس طلعت تقول انها ضد حماس التي ورطتها في الحرب…من الهتافات: “برا برا حماس تطلع برا”.
الحمساوي انس عاد ليلعب الدور المرسوم له في التغطية على جرائم حماس ضد سكان غزة pic.twitter.com/2Az7eeFvbH— افيخاي ادرعي (@AvichayAdraee) March 25, 2025
أما “أفيخاي أدرعي”- المتحدث باسم جيش الاحتلال للإعلام العربي- فقد مارس وظيفته كما يجب أن يكون، إذ ركز في حديثه عن التظاهرات في عدة تغريدات على الهجوم على قناة الجزيرة ومراسلها “أنس الشريف”، لأنهم لم يقدموا ذلك الجزء منها الذي يهتف ضد المقاومة، كما شمل هجومه “تامر المسحال”- الصحفي بالشبكة الذي قدم تحقيقات استقصائية حول معركة طوفان الأقصى وفشل الاحتلال فيها، وكأنه فرضا على الجزيرة ومراسليها تبني رؤيته ورؤية دولته في النقل.
ومع تزايد الحملات التحريضية واللجان الإلكترونية الداعمة للرؤية الإسرائيلية، هب الناشطون الفلسطينيون للرد عليها، فكتب الصحفي “رضوان الأخرس” مقالا على حسابه على إكس رد فيه على ادعاءات الاحتلال، نافيا عنهم فكرة الجنوح للسلام من واقع أفعالهم اليومية.
لسنا بحاجة كبيرة لذكر أمثلة عديدة من التاريخ لنرى إن كان الاحتلال يعيد لنا الحقوق بالركون والاستسلام أو لا، فالواقع حاضر أمامنا.
رغم وجود سلطة تتساوق مع الصهاينة في الضفة وتخنع أمامه عبر التنسيق الأمني إلا أن الاحتلال أعلن قبل أيام عن اعترافه بـ13 مستوطنة هناك وقال إنها خطوة…
— رضوان الأخرس (@rdooan) March 26, 2025
وقال نافيا جذر الفكرة التي يدعو لها الاحتلال من مسؤولية المقاومة عما يحدث: “لا شك أن الألم هذه المرة كبير وأكبر من أي يوم مضى في غزة ولا يمكن لعاقل أن يقول بأنه أمر عادي أو مستساغ بل هو فوق احتمال البشر ورؤيته تشق على النفس فما بالك بمن يعيشه، وكل صرخة وكل وجع من الألم أمر طبيعي والمطالبة بوقفه أيضا أمر بديهي.
لكن ما هو غير طبيعي هو تحميل المقاوم المدافع عن شعبه وأرضه ومقدساته مسؤولية إجرام الاحتلال وما يفعله، هذا الشاب وهذا المقاوم الذي هو جزء من هذا الشعب عاش معهم الجوع والحصار وفقد وتألم وتوجع أهله وعاشوا ما عاش الناس، وفوق هذا الألم يؤلمه لومه من بعض من يدافع عنهم وعن حقوقهم، بدلا من لوم القاتل، والغاصب والخائن، والخسيس والمتخاذل”.
لا تقتلوا أسود بلادكم.. فتأكلكم كلاب أعدائكم!
أعان الله شعبنا على هذا الخذلان، وثبت الله رجالنا على جهادهم في زمن التخلي والهوان!
— صلاح صافي| غزة 🇵🇸 (@iSalahSafi) March 25, 2025
ونادى الناشط الفلسطيني “صلاح صافي” أبناء غزة بعدم الاستجابة لتلك الدعوات فقال في تغريدته “لا تقتلوا أسود بلادكم.. فتأكلكم كلاب أعدائكم!.. أعان الله شعبنا على هذا الخذلان، وثبت الله رجالنا على جهادهم في زمن التخلي والهوان!”.
حين تتغير ملامح المعركة
في الوقت الذي يفشل فيه الاحتلال في تحقيق أهدافه العسكرية على أرض غزة، يتحوّل إلى ساحةٍ أخطر: الجبهة الداخلية.
حين تعجز الطائرات والدبابات عن إخضاع شعب لا يُهزم، يُطلق أدواته الناعمة: الإشاعة، الفتنة، والفتّ في عضد الصمود.
دعوات مشبوهة، وهتافات ملفّقة،… pic.twitter.com/MmratzkrLP— Khaled Safi 🇵🇸 خالد صافي (@KhaledSafi) March 25, 2025
ركز “خالد الصافي”- ناشط فلسطيني- على الرد على الحدث على بيان مآرب الاحتلال الخبيثة في زعزعة الجبهة الداخلية بزرع الفتن بين الحاضنة الشعبية والمقاومة، باستخدام ما أسماه “أدواته الناعمة: الإشاعة، الفتنة، والفتّ في عضد الصمود. دعوات مشبوهة، وهتافات ملفّقة، ومقاطع مصوّرة تُفبرك بعناية، تروج لرواية واحدة: أن الشعب يثور على المقاومة، وأن حماس أصبحت عبئًا على الناس”.
وأضاف موضحا حقيقة الحدث، فقال: “لكن الحقيقة هي: الناس يصرخون من الوجع، من المجازر، من القصف، من فقدان الأحبة، لا من المقاومة التي تدافع عنهم. إن الدعوات للخروج ضد المقاومة تنطلق من غرف أمنية للاحتلال، ومن حسابات التنسيق الأمني، ومن ألسنة لم تعرف طعم الانتماء قط”.
هناك حقيقة راسخة يجب أن تتجذر في وعينا الجمعي وذاكرتنا الوطنية، أن شعبنا الفلسطيني، وعلى مدار أكثر من 540 يومًا من الإبادة الجماعية، يواجه أعتى آلة قتل ممنهجة عرفها التاريخ المعاصر “الكيان الصهيوني النازي”.
في #غزة، كتب أبناء شعبنا ملحمة أسطورية بالصمود والثبات، وهم يقدّمون كل… pic.twitter.com/HFeLs3phs2
— أدهـم ابراهيم أبـو سلميـة (@pal00970) March 26, 2025
وأكد الناشط “أدهم أبو سلمية” في حديثه على الواقع في غزة الذي تلتف فيه الحاضنة الشعبية حول المقاومة ضد شيء واحد هو الاحتلال، فقال: “شعبنا في غزة لم يكن يومًا متفرجًا على مقاومته، بل كان الحضن والدرع والسند، قدّم فلذات أكباده، وشيّع خيرة قادته شهداء في معركة الاشتباك المفتوح مع العدو الصهيوني.
ورغم الجوع والتشريد، ورغم الموت المحاصر لكل بيت، لم تنكسر إرادة هذا الشعب، ولم تنحرف بوصلته، بل ازدادت ثباتًا على الحق، وإيمانًا بأن طريق الحرية محفوف بالتضحيات”.
نحنُ أبناء القضية الفلسطينية، نقف بجانب الــمــقــاومة المسلحة
الرحمة لأرواح شـــهــدائنا و المجد للــمــقــاومة ولمن صمدوا.#نحن_مع_المقاومة pic.twitter.com/TjOilwXuAl— محمد أبو حمزة (@MOHAMMEDDDAYA44) March 26, 2025
وكان ملخص الرؤى الفلسطينية لأهل القطاع في تغريدة الشاب الفلسطيني “محمد أبو حمزة” الذي أكد التفافه وبني جيله حول المقاومة، فقال: “نحنُ أبناء القضية الفلسطينية، نقف بجانب الــمــقــاومة المسلحة… الرحمة لأرواح شـــهــدائنا و المجد للــمــقــاومة ولمن صمدوا”.
لا لإسقاط البندقية
“نعم لوقف الاحتلال للحرب، ولا لإسقاط بندقية المقاومة”.. هكذا كان رد العشائر الغزاوية على الاحتلال، حيث رفضت كل أشكال استغلال التظاهرات ضد الإبادة، ومحاولة لي عنق الحقيقة وتحويلها ضد المقاومة.
حيث أعلنت فصائل العمل الوطني والإسلامي بغزة دعمها “التحركات الشعبية الصارخة والغاضبة في وجه حرب الإبادة ومخططات التهجير، وفي وجه الحصار الشامل وإغلاق المعابر”، وطالبت بفك الحصار وفتح المعابر، معتبرة إياها جزءًا من صمود أهل غزة، ورسالة للعالم تؤكد حقهم في الحياة الكريمة.
وراهنت على وعي أهل غزة بما يحيكه الاحتلال لهم عبر إطالة أمد الحرب ونقض الاتفاق “ليبقي الدم الفلسطيني أداة في صراعات زعماء وقادة الإرهاب”، ودعتهم لليقظة والحذر من محاولات تحويل بوصلة تظاهراتهم واستغلال معاناتهم في التحريض ضد المقاومة.
كما أكدت بيانات وجهاء ومخاتير غزة شمال غزة وفي المحافظة الوسطى وجنوبها على خروج المظاهرات ضد حرب الإبادة ومشروع التهجير والحصار والتجويع، ولأجل فتح المعابر لإدخال المساعدات، وشددت على وقوف كل تلك الأماكن في “صف المقاومة الفلسطينية المشروعة والمحقة”.
بيان وجهاء ومخاتير بيت لاهيا في غزة:
🔴 نقف في صف المقـ.ـاومة الفلسطينية المشروعة ولا نقبل محاولات فصل بيت لاهيا وتصديرها كجسم دخيل على الحالة الثورية
🔴 المسيرات العفوية التي خرجت اليوم لا يمكن أن نقبل استغلالها في مناكفة سياسية في هذه المرحلة الحساسة من الصراع مع العدو
🔴 لا… pic.twitter.com/kyTkgK2WWl
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) March 25, 2025
ولما شدد بيان وجهاء ومخاتير بيت لاهيا على ذلك، ونشروا بياناتهم في وسائل الإعلام الفلسطينية والعربية، أصدر وجهاء ومخاتير المحافظات الجنوبية في قطاع غزة بيانا شدوا فيه على أياديهم من باب تحمل المسؤولية الوطنية، بسبب قرارهم الاصطفاف حول المقاومة والالتحام معها، داعين العالم أجمع والقوى الوطنية فيه بالتحرك لوقف حرب الإبادة على غزة.
كما خصوا مصر بمطلب التحرك ضد ما يحدث في غزة لاسيما المجاعة التي تفتك بها، والتحرك معهم ضد مخطط التهجير، واصفين إياه بأنه “خطراً على الأمن القومي المصري”.
وناشدوا الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس والداخل المحتل والقوى العربية ودول الطوق بالتظاهر يوم الجمعة القادم “، ضد حرب الإبادة والتهجير والضغط على الاحتلال والإدارة الأمريكية الداعمة له لوقفها.
فصل الجبهة الداخلية عن مقاتليها، حيلة إسرائيلية قديمة اشتهر بها الاحتلال منذ حروبه الأولى مع العرب، وعلى الرغم من التحرك الفلسطيني من النشطاء والجماهير لبيان حقيقة الأمر، يبقى الإصرار الإسرائيلي على ضرب وحدة غزة- باستخدام الجماهير التي تتحرك في الميدان بفورة المجموع- أكبر مهدد لأكبر نقاط القوة لدى أهل غزة، بما يجعلنا نحبس الأنفاس بانتظار القادم خشية تطوره نحو الهاوية بعد النصر الذي أحرزته غزة في الجولات السابقة.