19 نعشًا في ليلة واحدة.. القصة الكاملة لحادث «طريق الموت» وضحايا لقمة العيش بالمنوفية
"عرائس في صناديق" حكاية 19 فتاة خَطَفَهُن الموت في رحلة البحث عن لقمة العيش

في صباحٍ مشحون بالحزن والآلام، لم تكن قرية كفر السنابسة بمحافظة المنوفية تدري أن هذا اليوم، الذي كان يفترض أن يكون يوم راحة “يوم الجمعة”، سيُكتب فيه مأتم جماعي لـ19 فتاة، خرجن من بيوتهن مع خيوط الفجر الأولى، بحثًا عن لقمة عيش نظيفة، لا تتجاوز 130 جنيهًا في اليوم .. خرجن على أمل أن يعدن مع الغروب، فلا عادت منهن واحدة
ميكروباص الأحلام.. كيف تحوّل إلى نعش متحرك؟الميكروباص الصغير الذي حمل أحلامهن وآمال أسرهن، تحرك كعادته نحو مزرعة عنب في مدينة السادات، داخله كانت هدير، طالبة بمعهد التمريض، تهمس في أذن صديقتها: “لازم أوفر قرشين للجامعة قبل الدراسة” .. وأخرى، شيماء عبد الحميد، طالبة كلية الهندسة، التي وضعت في حقيبتها بعض المذكرات الدراسية وسندويتش صنعته والدتها لها .. أما ميادة يحيى نصر، فكانت تتمني نفسها بأن تشتري من يوميتها طرحة خطوبتها المقرر عقدها بعد أسبوع واحد من تاريخ الحادث ..
حكايات من قلب المأساة:
في ركن آخر من السيارة، جلست آية زغلول، العشرينية ابنة محافظة المنوفية، لم تكن تنتظر معجزة تغير مسار حياتها، بل كانت تمسك بخيوط الحلم بنفسها، خصوصا انها مخطوبة منذ شهور، وتترقب يوم زفافها، تُعد له على قدر استطاعتها، طامحة في بداية حياة بسيطة مع من اختارته شريكًا لدربها .. فكانت تستيقظ مع شروق الشمس، وتلتحق بعملها كعاملة يومية في إحدى مزارع العنب، بنفس الأجر الذي لا يتجاوز 130 جنيهًا، لمساعدتها في تجهيز “الشبكة” وبعض متطلبات الزواج، وتخفيف الحمل عن أسرتها ذات الدخل المحدود.
عرائس في نعوش بيضاء:
بجانها تجلس، رويدا خالد، فتاة أخرى ضمن ضحايا الحادث، لم تتجاوز الثالثة والعشرين من عمرها، كانت تستعد لحفل زفافها أيضًا أشهر قليلة، فعملت بكرامة واجتهاد لتجهز نفسها بالحلال، وتحلم بمستقبل تصنعه بيديها، فخرجت لجمع محصول العنب كما اعتادت مع زميلاتهن، لكنها لم تعد إلا محمولة في كفن إلى أهلها، ضمن الـ19 ضحية الذين لقين مصرعهن في الحادث المأساوي
“طريق الموت” الذي يبتلع الأرواح بلا رحمة:
لم تكن تعلم هؤلاء الزهرات أن هذا الطريق، الذي اعتاد الأهالي تسميته بـ”طريق الموت”، سيفتح فمه ليلتهم أحلامهن؛ فالطريق بلا إشارات كافية، ولا حواجز آمنة، ولا رقابة فعلية على شاحنات النقل الثقيل التي تسير عليه بسرعات جنونية، ففي لحظة قدرية، اخترقت سيارة نقل ضخمة الحاجز المعدني الفاصل بين الاتجاهين، ودهست الميكروباص بمن فيه ..
14 فتاة رحلن في مكان الحادث، بين أنين الحديد الممزق وصراخ من بقي على قيد الحياة، ولفظت 5 أخريات أنفاسهن الأخيرة في المستشفى، بينما 3 فتيات فقط ما زالوا في العناية المركزة، يصارعن الموت الذي انتزع زميلاتهن أمام أعينهن.
مشهد لن يُنسى.. 19 نعشًا في جنازة واحدة:
في المساء، تحولت القرية الصغيرة إلى مأتم كبير، فالجثامين الـ19 زُفّت في مشهدٍ مهيب، لا تنساه ذاكرة المكان .. نعوش بيضاء مصطفّة، أمهات يصرخن ويمسكن بالأكفان، آباء يبكون في صمت، وخطيب ميادة يردد في انهيار: “كانت لسه مكلماني بالليل .. قالتلي متقفلش .. عايزة أطمن عليك”.
المأساة هنا تجاوزت حدود الحادث العادي، فعلى هذا الطريق سقط العشرات من قبل، وبقيت الوعود حبرًا على ورق؛ فالطريق الذي حصد أرواحًا بريئة بالأمس، سيظل يهدد أرواحًا أخرى ما لم تمتد إليه يد الدولة بإصلاح أو رقابة.
طريق بلا رقابة والسائق يتعاطى المخدرات:
النيابة العامة تحركت سريعًا، وتم التحفظ على سائق النقل، وتبين من التحاليل تعاطيه مواد مخدرة، وأصدر قرار بحبسه على ذمت التحقيقات، لكن مازالت القلوب في كفر السنابسة منشغلة بأمرٍ آخر: “مين هيرجّع البنات؟”.
الإهمال القاتل:
حادث المنوفية ليس الأول، ولن يكون الأخير. فالطرق في دلتا مصر تحولت إلى مقابر مفتوحة، تبتلع الأرواح واحدًا تلو الآخر، والضحايا دوماً من البسطاء. لقمة العيش هنا لا تُؤكل إلا بالتعب.. أو بالموت. ورغم أن السائق تحت الحبس، والأوراق تحت التحقيق، فإن الميت لا يعود، والزهرات لن يفتحن النوافذ من جديد
في لحظة واحدة، تحولت بيوت كفر السنابسة إلى أطلال؛ عرايس كانوا يستعدون للفرح، زُفوا في نعوش بيضاء .. حلم شيماء بالهندسة و هدير بالتمريض وطرحة ميادة؛ كلها باتت ذكرى.