مقالات

محمود عبد العظيم يكتب: الصحفي بين زمن البساطة وعصر الذكاء الاصطناعي

في زمنٍ مضى، كان الصحفي يحمل قلمه إلى قلب القارئ. لم تكن المهمة معقّدة؛ أحيانًا يكفي اتصال هاتفي قصير أو سطران يُمليهما على زميلٍ في مقر جريدته، ليحوّلهما فريق التحرير إلى خبرٍ متكامل، الكلمة آنذاك كانت تخرج صافية، خالية من الحسابات والتقنيات، مشبعة فقط بروح المهنة وحرارة الحدث.

لكن المشهد تغيّر.. اليوم، الصحفي لم يعد ذلك الناقل البسيط للخبر، صار لزامًا عليه أن يكتب وفق قواعد “SEO” متوافقة مع خوارزميات “جوجل”، وأن يراعي ما تريده المنصات الرقمية قبل ما يريده القارئ. عليه أن يلمّ بالميديا، أن يتقن أدوات الذكاء الاصطناعي، أن يجرّب يده في “الجرافيك”، أن يصير محرّرًا وكاتبًا ومصمّمًا ومسوّقًا في آنٍ واحد.

صار مطالبًا بأن يكتب وفق قوالب صارمة، تُرضي خوارزميات باردة تزن النصوص بميزان رقمي جامد، لا يعرف حرارة الحدث ولا شغف الكلمة، ليتحوّل الصحفي إلى: نصف كاتب، نصف محرّر، نصف مصمّم، نصف مسوّق… وفي النهاية يبقى إنسانًا كاملًا يصرخ بالحقيقة وسط ضجيجٍ لا ينتهي.

وفي زمنٍ صار فيه كل شيء محكومًا بالخوارزميات، تحوّل صراع المواقع على “الترافيك” والزيارات إلى ساحة حرب صامتة، لا صوت فيها إلا لأكواد البرمجة ولغة الأرقام. المواقع تتسابق، لا بما تحمله من مضمون، بل بما تملكه من قدرة على مصادقة جوجل، والتغلّب على شروطه السرّية والمتجددة. صار التنافس لعبة برمجية بحتة، حيث يربح من يُتقن خوارزميات البحث، لا من يكتب الحقيقة أو يُبدع الكلمة.

وفي هذه اللعبة القاسية، يقف الصحفي حائرًا. كلماته تتوارى خلف جدار رقمي لا يرحم، وجهده يذوب وسط سباق لا يعترف بمشاعره ولا بخبرته، يكتب بحرارة قلبه، لكن نصوصه تختفي في الصفحات الخلفية، بينما تتصدّر مقالات مكررة صيغت لأجل “الآلة” لا “الإنسان”، وهكذا يجد الصحفي نفسه بين المطرقة والسندان: مطرقة الخوارزميات التي تحدد من يراه القارئ، وسندان الجهد الذي يتلاشى في زحام لعبة لا مكان فيها للصدق والإبداع.

الذكاء الاصطناعي، الذي قيل إنه جاء ليُخفّف عن الصحفي، لم يفعل سوى أن حمّله ثقلًا جديدًا، فمن لم يتقنه، صار متأخرًا عن الركب، ومن يواكبه يجد نفسه مضطرًا لأن يتعلّم أكثر ويُجهد أكثر، كي يثبت أنه ما زال حاضرًا في الميدان، التكنولوجيا التي وعدت بالتبسيط، لم تفعل إلا أن عمّقت التعقيد.

ومع ذلك، تبقى المفارقة لامعة: كلما اتسعت دائرة المهام، زادت قيمة الصحفي. كلما صار عليه أن يكون أكثر من مجرد كاتب، صار أثمن مما مضى، إنه اليوم يُعادل فريقًا كاملًا، لكنه يعمل وحيدًا، يُقاتل على جبهات متعددة، ويقدّم نفسه ضحية التطوّر وبطله في الوقت ذاته.

الصحافة اليوم لم تعد مهنة بسيطة، بل أصبحت مهنة العذاب الجميل. ومع كل الأعباء، يظل الصحفي هو صاحب الروح التي لا تُستنسخ ولا تُستبدل. لأن الخبر بلا إنسان يحمله، مجرد نصٍ ميت، ولأن الكلمة بلا روح لا تملك أن تُشعل وعيًا، ولا أن تُحرّك قلبًا، ولا أن تصنع تاريخًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights