البابا الأمريكي: لحظة تاريخية تهز الفاتيكان وتفتح عهدًا جديدًا للسلام والحوار

للمرة الأولى في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية الممتد لأكثر من ألفي عام، يُنتخب مواطن أمريكي ليجلس على الكرسي الرسولي. هذا الحدث الاستثنائي يعكس التغيّرات التي تشهدها الكنيسة في القرن الحادي والعشرين، لا سيما على مستوى تمثيل القارات والدول المختلفة داخل القيادة العليا للفاتيكان. اختيار الكاردينال الأميركي روبرت فرانسيس بريفوست لهذا المنصب يعكس إدراك الكنيسة لدور أمريكا المتزايد في المجتمع الكاثوليكي العالمي، خصوصًا في ضوء التحديات المعاصرة التي تتطلب قيادة منفتحة، متعددة اللغات، وقادرة على الحوار بين الثقافات.
نبذة عن البابا الجديد: نشأة ومسيرة دينية طويلة
وُلد البابا ليو الرابع عشر في شيكاغو بولاية إلينوي، إحدى المدن التي تضم واحدة من أكبر التجمعات الكاثوليكية في الولايات المتحدة. منذ سنوات شبابه، التحق بسلك الكهنوت وانخرط في العمل الكنسي، حيث أظهر موهبة استثنائية في المجالات اللاهوتية والتنظيمية. صعد تدريجيًا في السلم الكنسي، متبوئًا مناصب متعددة أتاحت له العمل عن قرب مع المجامع الفاتيكانية. عرف عنه التواضع والانفتاح، وهو ما أهّله لاحقًا لنيل ثقة الباباوات الذين سبقوه، حتى أصبح واحدًا من أبرز الوجوه القيادية في الكنيسة.
وفي عالم متعدّد الثقافات واللغات، تبرز أهمية قدرة البابا على التواصل المباشر مع مختلف شعوب الكنيسة الكاثوليكية. يتحدث البابا ليو الرابع عشر الإنجليزية (لغته الأم) بطلاقة، إضافة إلى الإسبانية، والبرتغالية، والإيطالية، والفرنسية، ما يسمح له بالتفاعل السلس مع قادة الكنيسة في أوروبا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا. كما يقرأ اللاتينية، وهي اللغة الرسمية للفاتيكان، ويطالع النصوص الألمانية، ما يُمكّنه من التعامل مع التراث اللاهوتي الأوروبي بشكل مباشر.
الطريق إلى الكرسي الرسولي
رحلة البابا بريفوست نحو أعلى منصب في الكنيسة الكاثوليكية كانت حافلة بالتحولات والمناصب ذات الوزن الثقيل. في عام 2023، تم تعيينه رئيسًا لمجمع الأساقفة، وهو من أبرز المناصب في الفاتيكان، ويعنى بتقديم المشورة بشأن التعيينات الأسقفية حول العالم. كما شغل رئاسة اللجنة البابوية لأمريكا اللاتينية، وهي منطقة تُعد قلب الكنيسة الكاثوليكية من حيث عدد المؤمنين. وقد تم منحه رتبة كاردينال في سبتمبر 2023، وهو ما مهّد لتصاعد مكانته داخل الدوائر الفاتيكانية، قبل أن يُعيّن في فبراير 2025 أسقفًا على أبرشية ألبانو بالقرب من روما، في خطوة رأى فيها الكثيرون تمهيدًا واضحًا لوصوله إلى البابوية.
أجواء الانتخاب: دخان أبيض وأجراس فرح
كعادة الكنيسة في إعلان نتائج المجمع المغلق لاختيار البابا، تصاعد في صباح الخميس الدخان الأبيض من مدخنة كنيسة سيستين، مشيرًا إلى توافق الكرادلة على اسم البابا الجديد. هذا التقليد يعود إلى قرون مضت، حيث يرمز الدخان الأبيض إلى “الفرح والبشارة”، في حين يرمز الدخان الأسود إلى عدم التوصل لاتفاق. ومع صعود الدخان، بدأت أجراس كاتدرائية القديس بطرس تدقّ بقوة، معلنة للعالم أن زعيمًا جديدًا قد اعتلى الكرسي الرسولي، وسط أجواء امتزجت فيها الدهشة بالفخر، خصوصًا في الأوساط الأميركية.
أول خطاب علني: “السلام عليكم جميعًا”
خاطب البابا الجديد الحشود من شرفة كاتدرائية القديس بطرس بتحية عربية غير مألوفة في البروتوكول البابوي: “السلام عليكم جميعًا”، ما أثار موجة اهتمام إعلامي واسع. وقد اعتبر مراقبون أن هذه التحية تحمل رسالة رمزية مهمة تعبّر عن انفتاح البابا على العالم الإسلامي وتقديره للحوار بين الأديان. وفي خطابه، دعا إلى “بناء الجسور” بين البشر، مؤكدًا أن الطريق إلى التغيير الإيجابي يتطلب التعاون المشترك، متحدين بالله وببعضنا البعض. هذه الرسائل العميقة كانت بمثابة إشارة إلى التوجه الإنساني والانفتاحي الذي سيطبع عهده البابوي.
موجة تهاني دولية من زعماء العالم
عقب إعلان انتخابه، توالت التهاني من زعماء وقادة العالم تعبيرًا عن الترحيب والدعم للبابا الجديد، الذي يُنظر إليه كرمز روحي عالمي، وصوت معتدل يمكنه التأثير على القضايا العالمية الكبرى مثل الفقر، والسلام، والهجرة، وحقوق الإنسان.
ترامب: فخر لأميركا
أبدى الرئيس الأميركي دونالد ترامب فخره الكبير بانتخاب مواطن أميركي لهذا المنصب الرفيع، مؤكدًا أن ذلك “لحظة ذات مغزى كبير” في تاريخ بلاده. وأعرب عن تطلعه للقاء البابا في أقرب وقت، مشيرًا إلى أن انتخابه يبعث شعورًا “بالحماس والفخر الوطني”.
الإمارات: تعزيز التعايش والسلام
من جانبه، شدد الشيخ محمد بن زايد على أهمية الدور الذي يمكن أن يلعبه البابا الجديد في تعزيز قيم التعايش والحوار، وعبّر عن تمنياته له بالنجاح في قيادة الكنيسة نحو مزيد من الانفتاح والتعاون بين الأديان والثقافات، خصوصًا في ظل التوترات العالمية المتزايدة.
أوروبا ترحب بالبابا الجديد
القادة الأوروبيون لم يتأخروا في الترحيب أيضًا:
وقد اعتبر المستشار الألماني فريدريش ميرتس أن البابا الجديد “يمنح أملاً لملايين المؤمنين” في وقت تزداد فيه التحديات أمام الكنيسة.
فيما عبّر بيدرو سانشيز، رئيس وزراء إسبانيا، عن أمله في أن يكون للبابا دور بارز في “الدفاع عن حقوق الإنسان”، وهي من القضايا التي لطالما كانت محل اهتمام بابوات العصر الحديث.
أما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فقد دعا إلى أن يسهم البابا الجديد في “إرساء السلام والأمل”، وهي رسالة تحمل توقعات بدور دبلوماسي وأخلاقي متزايد للفاتيكان.
بولندا: التزام بالعلاقات الفريدة
أبدى الرئيس البولندي أندريه دودا، وهو كاثوليكي ملتزم، دعم بلاده الكامل للبابا الجديد، مؤكدًا أن وارسو مستعدة لـ”مواصلة توطيد هذه العلاقات الفريدة مع الكرسي الرسولي”، بما يخدم الصالح العام ويعزز السلام، مستندًا إلى القيم المسيحية المشتركة التي تربط البلدين.
روسيا : ثقة وتعاون مرتقب
أبدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين “ثقته” في استمرار “الحوار البناء” مع البابا ليو الرابع عشر، في إشارة إلى التقدير المتبادل بين موسكو والفاتيكان، رغم التوترات الجيوسياسية.